04 نوفمبر 2024
الكراهية والجُدُر الفاصلة
شُرِّع للكراهية في الولايات المتحدة وأوروبا، لتتكرَّس عرفاً في مكانٍ، ونهجاً يحميه القانون في مكانٍ آخر. ففي أميركا تكرّست الكراهية عرفاً بفوز ترامب، الحامل لواءها، وأصبحت مرشدته في إدارة البلاد. وفي أوروبا، وجدت لها تشريعاً في قرارٍ أصدرته محكمة العدل الأوروبية، قبل أيام. وهي وقائعُ تعتبر، في مجملها، تبدّيا لحالة السعار اليميني التي آل إليها الغرب، بعد موجات الهجرة التي وصلت إليه من سنتين، هرباً من الحروب في دول الشرق. ما جعل الغرب، الذي طالما خرج على العالم بخطابه المفاخِر بقيم الحرية والانفتاح والتعددية الثقافية والعرقية، يعود إلى النكوص، فينهج نقيضها.
الآن، وفي تكليلٍ لضجيج اليمين الأوروبي، المتباكي على هوية أوروبا، يأتي قرار محكمة العدل الأوروبية في 14 مارس/ آذار الجاري، والمؤيد منع ارتداء الرموز والألبسة الدينية، ليكون إنضاجاً وقوننةً لحملة الكراهية التي لحقت بالمسلمين، وغيرهم من المهاجرين، في أوروبا وأميركا أخيرا. هذه الحملة التي وجدت في خطاب التمييز والكراهية الذي خرج به الرئيس ترامب، حين كان مرشحاً، واستمر حتى بعد اعتلائه سدة البيت الأبيض، وجدت فيه مشجعاً للفعل، ولاستخدام الانتخابات للوصول إلى القرار السياسي، ومن ثم التأثير في التشريعات التي تحد من وصول المهاجرين إلى أوروبا، وتضيٌّق على المواطنين من أصول غير أوروبية، وتُظهر التمييز تجاههم على أساس الدين أو العقيدة.
وحيث إن خطاب الكراهية أصبح أشبه ما يكون بالموضة التي يتبعها مرشحو الانتخابات، من أجل الفوز بأصوات المقترعين، فعلت ذلك زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرّف في فرنسا، مارين لوبان، واقتَدَت بترامب، فزادت من خطابها العنصري تجاه المهاجرين، وهي التي لم يكن ينقصها التحفيز. كما لفت، أواخر السنة الماضية، تغيُّر خطاب رئيس الوزراء الهولندي الحالي، مارك روته، الذي بدأ يستخدم لغةً شبيهة بلغة ترامب، وهو ما لاحظه محللون يومها. كما أفاد أخرون بأنه لجأ إلى لغته تلك، وخصوصا مطالبته المسلمين بالرحيل، إن لم يندمجوا، كي يحوز على تأييد من رأى أن زعيم حزب الحرية الهولندي اليميني المتطرّف، غيرت فيلدرز، قد حازه عبر خطابه الشعبوي المعادي للمهاجرين والمطالب بزيادة تحكُّم بلاده بحدودها في وجههم.
وفي مطالبته تلك، يريد فيلدرز أن يبدو مترفِّعاً عن المطالبة ببناء جدار، على غرار جدار ترامب مع المكسيك، محاولاً عدم الوقوع في مطب التكاليف الهائلة التي تَوضَّح للرئيس الأميركي أن الجدار الذي خطط لبنائه على الحدود بين بلاده والمكسيك تتطلّبها. لكن، وبغض النظر عن عدم مطالبته ببناء جدار على حدود بلاده، فإن دولاً أوروبية قد فعلت، وبنت جدُراً إسمنتية وأخرى من الأسلاك الشائكة، كي تحول دون تدفق اللاجئين إلى داخل القارة. حيث بنت فرنسا جداراً من هذا النوع، وكذلك إسبانيا واليونان وبلغاريا والنمسا، وغيرها. ومن هذه الجدُر ما بلغ طوله مئات الكيلومترات، بارتفاع ثلاثة أمتار، مثل الذي بنته المجر على حدودها مع صربيا، سنة 2015، والآخر على حدودها مع كرواتيا لاحقا.
وبالإضافة إلى تلك الجدُر، بدأت أوروبا بناء جدُرٍ نفسيةٍ، تفصل بين مواطنيها الأصليين وأولئك الوافدين، وما قرار محكمة العدل الأوروبية سوى شروع في إشادتها. وإن كان المواطنون الأصليون في البلدان الأوروبية متقدمين على قادتهم السياسيين في الترفُّع، إلى حد ما، عن إظهار التمييز تجاه القادمين، فإن مواظبة هؤلاء القادة على التمييز، وعلى تكرار خطاب الكراهية، سيجعل من هؤلاء المترفِّعين قلةً. علاوة على ذلك، سيعطي القرار الضوء الأخضر لشركاتٍ كثيرة، لرفض توظيف المسلمين وغيرهم من مرتدي الألبسة التي تبرز هويتهم الدينية. كما أنه سيكون دافعاً للأحزاب والأفراد للمضي في تمييزهم وإبراز عنصريتهم تجاه المهاجرين أو المواطنين المسلمين، وغيرهم ممن يرتدون هذه الألبسة. إضافة إلى أنه سيعطي الشركات والمؤسسات، في الدول الأوروبية، الحق في طرد هؤلاء بسبب لباسهم، وليس بسبب موجبات إدارية وقانونية حقيقية.
لم يكن يخطر في بال أحد أن البلدان الأوروبية ستجد، في يوم، في ارتداء فتاةٍ غطاءً للرأس تهديداً لصروحها وتغييراً لهويتها. فهذه الدول التي أظهرت مجتمعاتها بمظهر المنفتح والحر، كانت تدفع الدول في بقية القارات إلى اتباع أسلوب حياتها، وتبنِّي اقتصاد السوق الحر، والأنظمة التي تحمي الأفراد والمبادرات الفردية وتقدِّس التنوع، وحتى تدفعهم إلى التشبُّه بها في كل مظهرٍ، ها هي الآن تُظهر، من حيث لا تدري، هشاشةَ طرحها، وضعف مجتمعها وهوانه، إلى درجة أن حجاباً أو رمزاً دينياً يهدّد وجوده، إن لم تتنطع الحكومات لحمايته، بسن قوانين التمييز العنصرية، وبناء الجدُر الفاصلة، مخافة دخول عنصر جديد يفتت نسيجها. وهي، في حين تبدو ساعيةً إلى حماية أبنائها، فإنها تخلق لهم معاداة بين من أرادت أن تحميهم منهم.