الكتابة كضوء والكاتب والشمس

14 يوليو 2015
لوحة للفنان بهرام حاجو (غاليري دار الأندى - عمّان)
+ الخط -
-1-
من شأن جمل قصيرة في سياق الحوار المنشور هنا مع الشاعر الكتالاني أنريك كزاسَس أن تشير إلى أبرز الدلالات التي شفّ عنها إصدار هذا الملحق الثقافي ويعمل على الدفع بها قدماً.
يقول كزاسس في هذه الجمل ما معناه أن الكتابة عموماً ضوءٌ يجعل الناس يرون الواقع والعالم أكثر من كونها رسالة. 
ويضيف: أحدٌ ما قال إنّ الكتابة ليست المصباح بل ضوءُه، والموسيقى والرسم أيضاً لهما الدور نفسه، مع الإقرار بأن للكتابة خصوصية كونها تشتغل على وسيط غير ماديّ هو اللغة. 
إذا ما اتفقنا أولاً- حتى لا تكون هناك مدعاة للاستطراد في السطور المقبلة - على أن إصدار هذا الملحق تجاور مع خصيصة البحث الدائب عن الحقيقة، فإن الغاية المتوخاة منه تتجسّد في توفير ضوء يرى القارئ عبره الواقع والعالم في مسار حياتنا الراهنة، وهو مسار بات فيه زمان الأسئلة الكبرى يفيض على ما عداه من أزمنة.
وبطبيعة الحال، ترتبط الخصيصة السالفة بمسائل ثقافية ذات طابع فكري ونظري حادّ ومعمّق يطاول بالمراجعة مصطلحات علم الجمال والنقد الأدبي بقدر ما يطاول خاصيات الإبداع عموماً.
وأظن أنه مع هذا، وعنده وبه، تتمثل واحدة من أبرز "المهمات" التي أقبل هذا الملحق على تأديتها، مما أفضى به إلى الدخول في نطاق غير محدود من إخصاب الجدل بين ما تنطوي عليه غاية توفير الضوء من آراء ومفاهيم وقيم، ومما يجعله يوماً بعد يوم بحاجة إلى مشاركة حميمة من طرف مبدعين ومثقفين كُثر.
عند هذا الحدّ سأتوسع أكثر فأكثر حول مسألتين ذواتي صلة:
الأولى، إن زمان الأسئلة الكبرى الذي نعايشه في الوقت الحالي لا يحيل إلى الانصهار في التساؤل فحسب. فالتساؤل بحدّ ذاته لا يشكل منهجاً بحال من الأحوال. يمكن أن يكون مدخلاً وضرورياً للانتقاد الذاتي حتى بإزاء مفاهيم وصلت إلى حافة المصطلح الثابت أو القبول العام تمهيداً لنكرانها وطرح بديل منها. 
يقول الناقد الأدبي تزفيتان تيودوروف: في سبيل نكران شيء ما على المبدع أن يعترف بمصطلحات هذا الشيء، ولتنفيذ تضحية لا بد من معرفة ما الذي ينبغي التضحية به.
الثانية، مسألة إيجاد التوازن بين الذات المبدعة والمجتمع الذي تعيش بين ظهرانيه أو ما اصطلح على تسميته "الكل الاجتماعي". 
وقد عبّر كازاسس عن ذلك بعبارة جميلة: أنت عن طريق شعرك تُعطى حياة، ومن ثمّ تُعطيها لمن حولك.
بالتأسيس على هذا التوازن ربما تنخفض إلى حدّ كبير خطورة سقوط المبدع في جزئية ليست ذات قيمة أكثر من ذاتية محض، أو في سرداب الإيغال في الحاضر، وبتر صلته الحيّة بالماضي وبالمستقبل أيضًا، أو بالعكس: الإيغال في الماضي وقطع صلة الحاضر الحيّة به. 
-2-
صادفت الأسبوع الفائت (8 تموز/ يوليو) الذكرى الـ43 لاستشهاد الأديب الفلسطيني غسان كنفاني. 
وكنت في ذكرى استشهاده الثامنة سنة 1980، قمت بجمع وإعداد كتاب للطبع بعنوان "غسان كنفاني - الرجل تحت الشمس" صدر في مدينته الأصلية عكا.
لم يستغرقني كثيرًا اختيار الاسم، الذي أحسب أنه ما يزال موفقًا في الإحاطة بكنفاني، الشخص والظاهرة، الرمز والنصّ. فالشمس تؤدّي دورًا مهمّا في إبداعه يتميز بثنوية متناقضة. فبينما نجدها في "رجال في الشمس" من أسباب موت الرجال الثلاثة في خزّان العربة الخالي وسط الصحراء القاحلة، فإنها في "ما تبقى لكم" أوّل ما يراه البطل، وهي المؤشر الزمني لرحلته نحو الحياة.
وهذا نموذج واحد فقط.
بهذا المعنى كان كنفاني رجلاً تحت الشمس. 
وبه كان موته/ استشهاده أيضاً بمثابة ذهاب إلى الظلّ كي يبقى دائمًا تحت الشمس الدافئة الملتهبة مكان لأناس جدد.
جمع الكتاب المذكور بين دفتيه مقالات لعلّ أهم خيط ينظمها جميعًا هو إجماع كتّابها على أن كنفاني، برغم منجزه الأدبي، "مشروع لم يكتمل"، وزاد بعضهم: بل اغتيل. 
وهذا الأمر يعطي، برأيي، المشروعية للفكرة التالية: أدب غسان كنفاني كلّه يشير إلى عبقرية مبكّرة. فقد اغتالوه في أواسط ثلاثيناته تقريباً، ومات شابًا. قياسًا بعمره كان إنجازه فذًّا بأي معيار وناقصًا أيضاً. لم يعش نصف قرن آخر، كنجيب محفوظ مثلاً، ولم يجد زمناً كافياً. لو كان عاش حتى الآن لرفع الرواية الفلسطينية إلى أفق أبعد مدى. اغتياله كان اغتيالاً لمصير وأفق روح ومشروع عبقري فذّ، وبالتالي ظلّ المشروع غير مكتمل.
ولقد تطرّقت في تقديمي للكتاب إلى هذه المسألة وكتبت ما يلي: "عندما استشهد غسان كنفاني، في يوليو / تموز 1972، ترك وراءه عدداً من الأعمال التي لم تكتمل، منها ثلاث روايات هي: الأعمى والأطرش، العاشق وبرقوق نيسان. وكلّها تشير، كما ذكر بعض النقاد، إلى تطوّر الكاتب وتنامي الوعي والبعد الرمزي في كتابته، هذا التنامي الذي يعبّر عن تجربته لا كأديب فحسب بل وكمناضل يرى أيضاً من الداخل ما في الحركة النضالية من مكاسب وثغرات. أين ستنتهي هذه الروايات؟ في أي اتجاه كان سيتعمق هذا الوعي بعد أن بلغ هذا المستوى؟ وكيف كان سينمو العمل الثوري في ضوء هذا الوعي؟ إذا كان بإمكان الواقع التاريخي للقضية الفلسطينية أن يجيبنا، فنجهد بوعينا الفردي في فهم هذه الإجابة، فإننا نبقى مفتقرين إلى إجابة هي في مستوى إجابة غسان كنفاني الفنية، تصلنا بالواقع على أكثر من صعيد فنمتلكه بأكثر من وعينا... سنفتقد قلم غسان كنفاني وإن كنا لم نفقد الواقع لأننا لن نجد في هذا ما يعوضنا عن ذاك".


المساهمون