شهدت مدينة "بادن - بادن" الألمانية يومي 17 و18 مارس/آذار الجاري اجتماعات وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية لمجموعة العشرين، وكان التحدي الأكبر أمام المجتمعين، هو كيف يمكن النهوض بالاقتصاد العالمي، في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي في العديد من مناطق العالم، وكذلك الدعوة لحماية التجارة من بعض الدول الكبرى، وعلى رأسها أميركا.
والملاحظ أن المؤشرات الاقتصادية المنشورة على مدار الأيام الماضية، توضح وجود تعاف في اقتصاديات منطقة اليورو، وكذلك تحسن ملحوظ في الاقتصاد الأميركي، بينما نلحظ أن باقي مناطق العالم لم تحظ بهذا التحسن، بل تعاني من تقديرات تشاؤمية، وإن كانت تقديرات صندوق النقد الدولي تشير إلى أن الدول النامية والصاعدة سوف تسهم بثلاثة أرباع النمو في الاقتصاد العالمي خلال العام الجاري 2017.
على رأس الموضوعات التي حظيت بمناقشات مجموعة العشرين الأخيرة في "بادن – بادن"، قضية حماية التجارة التي تتخوف منها اقتصاديات الدول الصاعدة، بعد تبني أميركا سياسات حمائية ضد الصادرات الصينية وبعض صادرات الدول الأوروبية في ظل ولاية ترامب.
تراجع التجارة الدولية
الإحصاءات المنشورة عن أداء التجارة الدولية لعام 2015 تبين وجود تراجع ملحوظ مقارنة بأداء عام 2014، فأرقام قاعدة بيانات البنك الدولي تظهر أن قيمة التجارة الدولية في العام 2015 بلغت نحو 16.7 تريليون دولار، مقابل نحو 19.1 تريليون دولار في العام 2014، بتراجع نحو 2.4 تريليون دولار، وبنسبة انخفاض 12.4%.
ورغم تفاؤل تقديرات صندوق النقد الدولي مؤخرًا بأداء التجارة الدولية في العام 2016، إلا أن منظمة التجارة العالمية أعلنت في سبتمبر/أيلول 2016 أن معدل نمو التجارة العالمية في العام 2016 سيكون بحدود 1.7%، وهو معدل أقل من تقديراتها التي أعلنتها في أبريل/نيسان من عام 2016، والمقدرة بنحو 2.8%.
والواقع أن تقديرات منظمة التجارة العالمية أقرب إلى الصواب، حيث مارست العديد من الدول أسلوب حماية التجارة مخافة زيادة معدلات العجز التجاري والمالي، في ظل تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي، والإعلان الصريح من قبل ترامب، بضرورة حماية تجارة بلاده ضد الصادرات الصينية والألمانية وبعض دول الجوار كالمكسيك.
وكان لما يُمكن أن نسميه "حرب العملات" دور في تراجع التجارة الدولية خلال عام 2016، إذ لوحظ أن ارتفاع قيمة الدولار أمام باقي العملات، نال من كثير من الاقتصاديات التصديرية، وأدى إلى خفض عملاتها بمعدلات تراوحت ما بين 20% - 30%، كما حدث في اقتصاديات تركيا وماليزيا والصين والبرازيل.
أميركا أولًا
شعار "أميركا أولاً" الذي تتبناه سياسة ترامب الاقتصادية، ليس جديداً على نهج أميركا في مجال التجارة العالمية، ففي عام 1947 تبنت أميركا في ذلك الوقت الجهود لعدم قيام منظمة التجارة الدولية، لأن قيام المنظمة في ذلك التوقيت كان ضد مصالحها التجارية، على الرغم من تفوقها الاقتصادي وبداية سيطرتها على مقدرات الاقتصاد العالمي.
وفي عام 1995 تغير موقف أميركا من إنشاء منظمة التجارة العالمية، إذ دفعت بغالبية الدول النامية للتصديق على اتفاقية إنشاء المنظمة، باعتماد نتائج جولة أرجواي، وفي ذلك التوقيت كان مشروع العولمة في أعلى مظاهر سيطرة أميركا على المقدرات السياسية والاقتصادية للعالم، فلوحت أميركا للدول النامية بسياسة العصا والجزرة. لكن أميركا ومعها الاتحاد الأوروبي لم يفيا بعهودهما للدول النامية.
فنظير إغراء الدول النامية للتصديق على نتائج جولة أرجواي بإنشاء منظمة التجارة العالمية، تعهدت أميركا والاتحاد الأوروبي بتوطين التكنولوجيا في الدول النامية، وتقديم المساعدات لتأهيل اقتصاديات الدول النامية لقواعد السوق الحرة، وتعويضها عن سلبيات حرية التجارة، وكذلك التعهد برفع الدعم المقدم لدى أميركا والاتحاد الأوروبي عن القطاع الزراعي بهما، بما يؤدي إلى فتح أسواق جديدة بدخول المنتجات الزراعية من الدول النامية لأميركا والاتحاد الأوروبي في إطار قواعد التجارة الحرة.
وبعد مضي نحو 22 عامًا على إنشاء منظمة التجارة العالمية لم تفِ أميركا أو الاتحاد الأوروبي بهذه التعهدات، وهو ما أفقد منظمة التجارة العالمية دورها بشكل يتناسب مع مكانتها كمنظمة عالمية.
مطلب التجارة العادلة
جدل دام لعقود في إطار علاقة الدول النامية بالدول المتقدمة، أو بعلاقة دول الشمال بدول الجنوب، حول مطلب الدول المتقدمة بتجارة حرة، بينما الدول النامية تطالب بتجارة عادلة، فقواعد التجارة الحرة التي تطالب بها الدول المتقدمة، تتناسب مع قدراتها الاقتصادية والتنموية التي بنيت منذ عقود، وقامت على قواعد حماية التجارة، بينما الدول النامية، تطالب بما يتناسب مع طبيعة تجاراتها التي تغلب عليها المواد الأولية، ذات الأسعار شديدة التواضع، والتي تتحكم في سوقها الدول المتقدمة، كما أن منتجات الدول النامية تفتقر إلى القيمة المضافة العالية التي تتمتع بها منتجات الدول المتقدمة.
لذلك تحتل مطالب الدول النامية بوجود تجارة عادلة مرتبة متقدمة في كافة الحوارات، التي تجرى بشأن مستقبل التجارة الدولية، حتى تحصل على نصيب عادل لما تقدمه من مواد أولية، ولما افتقدته في بناء اقتصادياتها خلال الفترات الماضية نتيجة وقوعها تحت تأثير الاحتلال أو سيطرة الدول المتقدمة على أسواق التكنولوجيا.
والملاحظ في اجتماعات مجموعة العشرين في المانيا، أنها ضمت الدول المتقدمة والصاعدة، وكان لا يوجد بين أعضاء المجموعة عضو من الدول النامية، باستثناء السعودية، وهي دولة نفطية، وليس بوسعها أن تتبنى مطالب الدول النامية، ولم تفوضها كذلك هذه الدول للحديث باسمها.
إلا أن المجموعة اعتادت دعوة بعض الدول النامية لحضور اجتماعاتها بصفة مراقب، وهو ما شهدته اجتماعات "بادن – بادن"، حيث حضرت خمس دول افريقية هذه الاجتماعات (ديفوار والمغرب ورواندا والسنغال وتونس)، نظرًا لأن الاجتماعات ناقشت قضية تحسين مناخ الاستثمار بأفريقيا على المدى الطويل.
وبلا شك أن حضور هذه الدول النامية من افريقيا أو غيرها من المناطق الأخرى، لا يمكن أن يسهم في تغيير توجهات دول مجموعة العشرين نحو تحقيق مطالب الدول النامية في قضية التجارة العالمية.
جديد بادن
اجتماعات وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية بمجموعة العشرين الأخيرة في "بادن - بادن"، كان لا يرجى منها نتائج إيجابية تجاه تعزيز التجارة، وإلغاء التوجه نحو الحماية، لأن المجموعة لا تملك صفة إلزامية لأعضائها، والاجتماعات مجرد مشاورات ومفاوضات.
وقد سعت كل دولة داخل اجتماعات المجموعة وخارجها لإعلاء مصالحها الاقتصادية فحسب، مع أو ضد حماية التجارة، فأميركا ستمارس نفس التوجهات لحماية التجارة، لما تعيشه الآن من تحسن اقتصادي مع مرور الشهر الأول لولاية ترامب صاحب توجهات الحماية.
ووفق ما نقلته وكالة "رويترز" عن وزارة العمل الأميركية، فإن فبراير 2017، الذي يعد الشهر الأول لولاية ترامب، شهد تحقيق 223 ألف وظيفة في القطاعات الاقتصادية المختلفة بدون قطاع الزراعة، وأدى ذلك لارتفاع معدلات الأجور بنحو 0.2%. ولوحظ أن هناك انتعاشًا غير مسبوق في قطاع الانشاءات على مدار السنوات العشر الماضية.
وعلى الجانب الآخر، فإن الصين وألمانيا تتخوفان من السياسة الجديدة لترامب، لأن إجراءات الحماية الأميركية من شأنها أن تصيب صادرات البلدين في مقتل، خاصة أن سياسات ترامب في مجال التجارة مصحوبة بسياسات أخرى تتعلق بالنواحي المالية والنقدية، مما يجعل الكفة في صالح أميركا.