الكاتب... مثقفاً

13 مارس 2016
العلاقة بين الكاتب والمثقف (Getty)
+ الخط -
في أكثر من مناسبة، ومع بعض التنويع في صيغة السؤال، قيل لنجيب محفوظ: "تتناقض مواقفك العامة المهادنة مع أدبك الناقد المعترض الصريح، أيهما نصدق؟". وكان الردّ المركّز، وشبه الحاسم، للروائي العربي الأشهر كالتالي: "صدّقوا الأدب". وجواب من النوع الأخير لا يمكن أن نعـثر على ما يشابهه، ومن ناحية الموقف الحدّي، عند الروائي عبد الرحمن منيف أو إلياس خوري في السياق العربي، وعند الروائي ماريو فارغاس يوسا أو كارلوس فوينتس في السياق الأميركي اللاتيني... وعند غير هؤلاء، وهم كثرٌ، وسواء في مجال النوع الروائي أو غيره من مجالات الأنواع الأدبية. وكل ذلك في دلالة على دور الكاتب من عدمه كما في حال قول نجيب محفوظ الذي لا يظهر أنه يعتقد في جدوى الكاتب الذي بإمكان الروائي ذاته أو الشاعر أو الكاتب المسرحي الاضطلاع بدوره، أو حتى التماهي معه وبمعنى من المعاني، في سياقات محدّدة هي سياقات المجتمعات التي تستوعبه.

فمن الجلي، إذن، أن هناك صنفا من الروائيين والشعراء والكتّاب المسرحيّين يفارقون ــ من حين لآخر ــ "جزرهم الأدبية" من أجل الاضطلاع بأدوار الكاتب. ولا نقصد، هنا، الكاتب الذي يعنى بـ"عمل الكاتب" في دلالة على طقوس الكتابة وسيرة الكتابة، وهو ما نألفه عند روائيين عالميّين كثيرين يصعب عدّهم في الحيز المكاني لهذا المقال المضغوط، ولا نقصد الكاتب الذي يعنى بـ"الذات الكاتبة" على نحو ما فعل الروائي العالمي الأبرز غابريال غارسيا ماركيز في جزء من كتاب "قصص ضائعة" (التي أعدّها المترجم صالح علماني) أو الروائي الأرجنتيني أرنستو ساباتو الذي اهتم بالذات ذاتها في كتابه "الكاتب وكوابيسه" وفي إطار لا يفارق "قضايا الرواية المعاصرة" كما ورد في عنوان الكتاب الفرعي، ولا نقصد الكاتب الذي يخرج من الحديث عن الرواية إلى الأدب بعامّة وفي علائقه بالسينما ومعارف أخرى على نحو ما فعل الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو في كتابه "آلة الأدب". إنّنا نقصد، هنا، الكاتب الذي يحرص، بدوره، على الاضطلاع بدور المثقف جنبا إلى جنب أفراد من تخصّصات متباعدة ومعارف متغايرة واهتمامات متنوعة.

وللإشارة فمفهوم الكاتب، ومن ناحية الاضطلاع بأداء المثقف هذا، مفهوم حديث؛ إضافة إلى أنه دخل العالم العربي في "حقائب الحداثة الغربية". ولعل هذا ما يفسّر ارتباط هذا الأداء بالصحافة وبالعمل الإذاعي والبرامج التلفزيونية... وغيرها. والكاتب، هنا، مطالب بالحضور النقدي الذي هو قرين نوع من الإسهام في توسيع دوائر "الخطاب الكبير" الذي يحرص على مضاعفة الوعي النقدي تجاه قضايا وألغام... تعتصر المجتمعات العربية مثلما تصرّ على مصادرتها من الوجود والمعرفة معا.

ولا يحول القول بهذه العلاقة، القائمة، بين كل من الكاتب والمثقف، دون التمييز بين الطرفين الأخيرين وعلى مستوى "الأصل والتاريخ"؛ وهذا على الرغم من علاقة الوجود، وليس علاقة الحدود، التي تصل ما بينهما. وكان جان بول سارتر قد أوضّح الفكرة نفسها، في كتابه "دفاع عن المثقفين" 1972، حين قال: "فلن تكون للمثقف من مهمة غير فنه. ولكن لا مرية مع ذلك في أن هناك كتّابا يلتزمون وينخرطون في معترك النضال من أجل تحقيق الشمولية إلى جانب المثقفين، إن لم نقل في صفوفهم". وكان الأكاديمي إدوارد سعيد، وهو صاحب الطرح المتميّز بصدد المثقف في نهاية القرن العشرين، وعلى نحو ما صاغه في محاضراته "صور المثقف" 1994، قد أكد على الكاتب الذي يضطلع، بدوره، بـ"دور المثقف"، مؤكّدا في الوقت نفسه على فكرة "الكتابة" باعتبارها "مشروعا نقديا مستقلا" يطوّعه صاحبه، وبذكاء، في "مضاعفة الوعي". وكما عاد إدوارد سعيد لشرح الصلة التي تصل ما بين الطرفين في كتابه اللاحق على "صور المثقف" 1994، ونقصد كتابه "الإنسية والنقد الديمقراطي" 2004 الذي اختتمه بفصل حول "الدور العمومي للكتّاب والمثقفين" يرسم فيه صورة للكاتب غير مألوفة في الاستخدام اليومي للغات والثقافات المألوفة. فالكاتب، بدوره، صار بإمكانه أن ينتقد ويجادل ويسخر ويعترض ويواجه... وهي كلّها صفات ظلّت ترتبط بالمثقفين في سياق اللحظات الكثيفة والتوتّرات المستدامة.

(ناقد وباحث مغربي)

اقرأ أيضاً
الكتاب، المعنى والرأي العام
الكتابة كشأن ديمقراطي
دلالات
المساهمون