القطرة التي أفاضت الكأس في لبنان

21 أكتوبر 2019
تصاعد السخط الشعبي الواسع ضد تردي الظروف المعيشية(العربي الجديد)
+ الخط -
هزّت الاحتجاجات، ضدّ النخبة السياسية، العاصمة اللبنانية بيروت منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، عقب موافقة الحكومة على مشروع قانون يفرض ضرائب على المكالمات الصوتية التي تتم من خلال تطبيق واتساب WhatsApp ، viber، فيسبوك كول، فايس تايم، وهذا ما اعتُبر بمثابة السيل الذي بلغ الزبى.
وجاء الغليان الشعبي نتيجة لعدّة تراكمات، منها فشل السلطات في إدارة الأزمة الاقتصادية، وتوجه الحكومة إلى إقرار ضرائب ورسوم جديدة، وتصاعد السخط الشعبي الواسع ضد تردي الظروف المعيشية، كما جاء في وقت لم يعد بإمكان المواطن تحمّل غلاء المعيشة والبطالة وسوء الخدمات العامة. كما يأتي الغليان وسط حديث عن انهيار مالي ونقدي وشيك، في ظل تآكل احتياطي النقد الأجنبي لدى مصرف لبنان المركزي، ما يزيد من تعقّد المشهد الاقتصادي.

ويبدو أنّ مشاكل لبنان المالية والاقتصادية مزمنة ومعمِّرة، فقد انفجر الدين الحكومي بسبب التعنُّت السياسي، ومن المتوقع أن يفوق 158% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2021، كما يتخبَّط الاقتصاد بين الزيادة الرهيبة للديون الخارجية وارتفاع أسعار الفائدة، وهذا ما يضمن الركود للنمو الاقتصادي بداية من العام المقبل.
أزمة كبيرة تلوح في الأفق وما زالت الحكومة تتأرجح بين حبال المماطلة والتسويف في تنفيذ الإصلاحات الجذرية وتتمسَّك بالخطط التقشفية.

وفي محاولة فاشلة لحشد الدعم لتنفيذ الإصلاحات المؤلمة بغية تحقيق الاستقرار في الأوضاع المالية الكئيبة، أعلنت حكومة سعد الحريري مؤخراً "حالة الطوارئ الاقتصادية"، داعية إلى تقديم تضحيات من قبل الجميع، لذلك يبدو أنّ النخب حريصة في النهاية على الإصلاح، ولكن من خلال عصر المواطن. 
الاحتجاجات التي تهزّ لبنان حالياً من شأنها أن تنزل النخب السياسية من عروشها، لأنّ الرفاهية الشخصية للنخب السياسية تعتمد اعتماداً كبيراً على رفاهية الاقتصاد اللبناني واستقرار الأوضاع، فمثلا وبالنسبة للشركات التي يزيد عدد موظفيها عن 50 موظفاً، فإنّ 44% منها مرتبطة سياسياً بالنخب، وفي أغلب الأحيان يكون عضو مجلس الإدارة فيها صديقا مقرَّبا لعضو من النخبة السياسية.

لذلك يتم القيام ببعض الإصلاحات الطفيفة بين الحين والآخر، والتي تنطوي على تغيير هيكلي ضئيل جداً، كتحسين القدرة التنافسية للقطاع الخاص أو تضييق الخناق على التهرّب الضريبي، بينما تستمرّ السياسات التشويهية في نخر العمود الفقري للاقتصاد، كالإعفاءات الضريبية وأسعار الفائدة المرتفعة. وهكذا تتمكَّن الجهات السياسية الفاعلة من الاستفادة بشكل مفرط من الوضع الراهن من جهة وبيع الوهم للشعب من جهة أخرى.
فقد صادق البرلمان على ما سماه "ميزانية التقشف" لعام 2019 في يوليو الماضي، حيث تضمَّنت الميزانية عدداً مهماً من التخفيضات في النفقات وزيادة فقط في الإيرادات التي تهدف إلى استعادة ثقة المستثمرين والمجتمع الدولي في حكومة حريصة على الإصلاح، وفقا لما تنسجه مخيلة النخبة السياسية التي وضعت نصب عينيها الاستثمار الأجنبي الذي سينعش شركاتها والحدّ من عجز الموازنة الذي يعكِّر مزاجها من دون الاكتراث لمعالجة المشاكل الهيكلية التي أدّت إلى تدهور الوضع الاقتصادي، كعدم التوقف عن استخدام نظام الضرائب التراجعي الذي يؤدِّي إلى تفاقم أوجه عدم المساواة القائمة، إضافة إلى تجنُّب الاستثمارات العامة التي تمسّ الحاجة إليها.

وتعمل النخبة السياسية جاهدة لتسيير دفة الإصلاحات وفقاً لما تتطلبه مصالحها، فقد تمّ رفض مقترحات فرض ضرائب على رواتب ومزايا ومعاشات الساسة الحاليين والسابقين، كما اختفت التعديلات المقررة لزيادة الرسوم المفروضة على نوافذ السيارات الملوّنة وتراخيص حمل الأسلحة التي تُستخدم على نطاق واسع بين حراس أمن السياسيين، من الوثائق الختامية الخاصة بإعداد مشروع الميزانية لسنة 2019، وأقصى ما تحرص عليه النخبة الحاكمة هو إلقاء المزيد من الضرائب على كاهل المواطن المغلوب على أمره، وتأجيل فاتورة المشاريع الاستثمارية للسنوات القادمة.

لماذا تتأخَّر الإصلاحات في لبنان؟
تأخُّر الإصلاحات يجد تفسيره في الاقتصاد السياسي للإصلاح الذي يفيد بأنّ قطار الإصلاح لم يصل أبداً إلى وجهته في لبنان نتيجة لنضال جماعات المصالح القوية لتحويل تكلفة الإصلاح إلى بعضها البعض، أي أنّ كل جهة تتنصل من المسؤولية وترمي كرة الإصلاح إلى الأخرى، فالإصلاح يأتي على حساب النخب السياسية التي تفعل ما في وسعها للمماطلة في الإصلاح والتسريع في استنزاف الثروات واستغلال الفجوات والثغرات لتمرير الصفقات، لأنّ تلك النخب على يقين تام بحدوث الاستقرار وتغيُّر الوضع الراهن عندما تتدهور الظروف الاقتصادية بشكل كافٍ، بحيث تتنازل المجموعات الأضعف وتتحمَّل عبئاً أكبر من التكاليف.

ولفهم حرب الاستنزاف بين النخب اللبنانية، يجب على المرء أن ينظر أولاً إلى بنيتها وعلاقتها مع القطاع الخاص، حيث تركِّز الشركات المرتبطة سياسياً بالنخب في القطاعات التي لا تتأثَّر (أو تتأثَّر بشكل قليل نسبياً) بتراجع مؤشرات الاقتصاد الكلي، فالتباطؤ الاقتصادي لا يمسّ غالباً القطاعات التي ترتبط فيها أكثر من نصف جميع الشركات سياسياً بالنخب، كقطاع الفندقة والضيافة.
فحسب إحصائيات صادرة عن جامعة أكسفورد، ترتبط الشركات التي تدير الفنادق والمنتجعات على الواجهة البحرية على التوالي بـ 61% و55% بالنخب السياسية، فقد ازداد عدد المسافرين في مطار بيروت باستمرار على مدار السنوات الماضية، بينما ارتفع عدد السياح بنسبة تقارب 45% خلال الفترة الممتدة ما بين 2012-2017. وبناءً على ذلك، سجلت الفنادق ومنتجعات الواجهة البحرية تحسناً كبيراً في سجلات الحجز.

وهناك مثال آخر وهو القطاع المصرفي، حيث وسَّعت البنوك التجارية التي لها ارتباطات بالنخب السياسية أرباحها بشكل كبير، وحقَّقت عائداً على متوسط حقوق الملكية أعلى من 11.2%.
كما تصنَّف شركات الأمن ضمن القطاعات الأقل تأثُّراً بالتراجع الاقتصادي، وهناك إقبال كبير على هذه الشركات من قبل السياسيين ورجال الأعمال والشخصيات العامة الأخرى الذين يظل أمنهم ضرورة قصوى لمواجهة حالة عدم اليقين السياسي والأمني السائدة في لبنان.

نفس الأمر بالنسبة لشركات الشحن البحري التي ازدهر نشاطها بعد إغلاق الطرق البرية عبر سورية في عام 2011. 
كل هذه الأمثلة توضِّح التأثُّر الطفيف للنخبة السياسية والقطاع الخاص بتدهور مؤشرات الاقتصاد الكلي، وبالتالي تفسِّر بوضوح سبب تأخُّر الإصلاحات في لبنان.

خلاصة القول إنّ انخفاض الاهتمام بلبنان من قبل أوروبا ودول الخليج يجعل من هذه الفترة مغايرة تماماً للظروف والوقائع التي حصلت في السابق، وبالتالي سيعاني المواطن من ويلات الركود الاقتصادي الحاد الذي لن تسلم النخب السياسية منه أيضاً رغم تكتيكاتها المتعددة في التهرُّب منه.
لذلك ينبغي على الحكومة الحالية أو القادمة إيجاد الحلّ بأقصى سرعة ممكنة والتفكير في بدائل أخرى، كالمضي قدماً في التنقيب عن النفط والغاز البحريين، وإعداد خطة واضحة وفعّالة لإنقاذ قطاع الكهرباء، لأنّ سياسة التقشُّف الحالية لن تزيد الأمواج التي تتقاذف سفينة الاقتصاد إلاّ علواً وهيجاناً، علماً أنّ الطاقم نفسه يتولَّى قيادة السفينة منذ عقد ونصف ومن دون قبطان، وبدلاً من الاتفاق على خطة تنقذ هذه السفينة من الغرق يستمرّ هذا الطاقم في حرب الاستنزاف وعصر المواطن والنزاع الطائفي.

المساهمون