ومن الطبيعي أن يكون أبناء اليسار من أنصار المضمون، وأن يرفعوا رايته عالياً في مواجهة أعمال الشغب والتشويش التي يقوم بها الشكل وأنصاره الذين كانوا في الغالب من التيارات المحافظة. وقد تجلّت تلك السجالات في الموقف من الشعر خاصة، إذ كانت بنية القصيدة هي المسألة الأكثر وضوحاً لخوض المعركة حولها.
وأما أنصار الشكل فقد هتفوا للشعر القديم، وأقاموا من عمود الشعر نصباً يمكن إزجاء التحية له صباحاً ومساء في ظل المناهج التي لا تدرّس سواه. بينما كان أنصار المضمون، يقرؤون الشعر الحديث، وهم يحتفلون بالمعاني الجديدة، والحرية الوزنية التي خرجت من ثوب الجمود المهترئ. كان أنصار المضمون يقولون إنهم يسجلون موقفاً من العالم، فالإنسان موقف. وإنهم يمثلون التقدم والقيم الإنسانية والمستقبل، ويتهمون أنصار الشكل أنهم رجعيون ومتخلفون ويمثلون قيم الجمود والتمسك بالماضي والعجز عن التلاؤم مع الحاضر.
وفي المقابل كان أنصار الشكل يرون أن القاعدة هي احترام التقاليد، والتمسك بالسلف. ويزعمون أنهم يحرسون الأصالة، ويدافعون عن التراث، ويمثّلون قيم الأمة والدين، وأن خصومهم يقلّدون الغرب، وخاصة في بنية القصيدة الحديثة التي خرّبت ميزان الشعر العربي، واستبدلته بتلك المقاطع المصفوفة بلا ترتيب في صفحات المجموعات الشعرية.
وثمة من يقول إن ذلك الخلاف كان زائفاً، فالثابت في الحياة أنه لا وجود لشكل حر خال من المضمون، ولا أثر لمضمون محمول على سراب بلا شكل، ويمكن القول إن المسألة لم تحسم بعد، لا في الثقافة العربية، ولا في غيرها من الثقافات.
غير أن من يتأمّل المصائر التي آل إليها أولئك الذين كانوا يثيرون الضجيج حول تلك القضايا الخلافية، سوف يدهشه أنهم اليوم أعادوا ترتيب مواقفهم، والاصطفاف من جديد في مواقع لا علاقة لها البتة بما كانوا يدعون إليه من قضايا التحرّر أو من قضايا التمسك بقيم الأمة. فكثير من أنصار المضمون وأنصار الشكل وقفوا إلى جانب الطغاة، وناصروا القتل والدمار.
انقسم اليسار بين مؤيد للثورات، وبين معاد لها. والعكس صحيح بالطبع، فكثير من أنصار المضمون وأنصار الشكل انخرطوا في الثورات، وقدموا التضحيات. والغريب في الأمر أن القضية لا تزال ساخنة، فالخلاف حول القصيدة هو خلاف حول مسائل العيش والحياة، ومن الغريب أن يهرب كثير من المشاركين في الثورات من هذه المسألة التي هي مسألة المستقبل: ما شكل الحكم الذي سوف يأتي في المستقبل، وما مضمونه؟
هل كانت مواقفنا زائفة، أم خلافاتنا هشة؟ وهل كانت تلك الثورات التي يتحدث عنها جيل من المتعلمين والمثقفين مجرد قضية مقهى حتى إذا جاءت ساعة الحقيقة، ودّع كل منهم كلماته ولحق بمصالحه؟