"نداء لكل عائلة من القصرين توجهت إلى مدينة سوسة... للاطمئنان على أبنائهم جرحى حادث خمودة ... أضع على ذمتهم منزلي للمبيت والراحة والطعام... مجاناً". "من مدينة بن عروس حيث مستشفى الحروق البليغة، بيتي على ذمة أهالي القصرين". هذان النداءان هما جزء من عشرات النداءات التي انتشرت في اليومين الماضيين على مواقع التواصل الاجتماعي في تونس. أطلقها سكان عدد من المدن، كصفاقس وقفصة وغيرها، تعبيراً عن تضامنهم مع عائلات المصابين بحادثة خمودة، في محافظة القصرين، والتي أودت بحياة 16 مدنياً وأوقعت أكثر من 60 جريحاً. المواطنون حاولوا تقاسم المعاناة مع أهالي القصرين. بمبادرة بسيطة ومتواضعة، اقترحوا حلولاً عاجلة لعائلات لعلها لا تملك ثمن التنقل والإقامة في هذه المدن لتفقد جرحاها والبقاء إلى جانبهم.
وتشير هذه الالتفاتة من قبل الشعب التونسي إلى أن سرعة استجابة المواطنين لواجب التضامن والإغاثة تفوق سرعة تحرك الحكومة وتحملها لمسؤولياتها، على الرغم من أن ردة الفعل هذه المرة، كانت أفضل إلى حد ما من سابقاتها. ولم يلاحظ تغيير جوهري في الأداء الحكومي، لأن المآسي في القصرين تتكرر، وتتلاحق، ولكن الحال لا يتغير.
ولفهم حجم المفارقة "القصرينيّة"، تكفي جولة صغيرة على صفحات شباب القصرين على مواقع التواصل الاجتماعي، للوقوف على استعداد الأهالي للدفاع عن مدينتهم وبلدهم، على الرغم من كل النسيان والتهميش، أو "الحقرة" أي الاحتقار، وفق التعبير المحلي.
وكانت وقعت مواجهات ليلة الثلاثاء الماضي مع "إرهابيين"، بحضور جماهيري لافت، يعكس شجاعة الشباب في التصدي لكل اعتداء. وجرى تداول فيديوهات تفصيلية للواقعة، كانت أصوات الشباب فيها تتعالى بدعم الجنود وتلعن "الإرهابيين". ويكرس ذلك حرباً نفسية لعلها ساهمت في التأكيد مرة أخرى، على عدم وجود حاضنة شعبية لـ"الإرهاب" في تونس.
"الأربعاء الأسود"
ولأن المأساة واحدة، فقد أودى حادث سير كارثي بعدد من أهالي القصرين، ما حوّل أربعاء القصرين إلى "الأربعاء الأسود"، وزاد من حجم معاناة الفقر والبطالة اليومية، إلى حياة أصبحت مستحيلة. ولم تنفع احتجاجات الشباب المستمرة منذ سنوات في تغيير شيء يذكر في القصرين. فقد خرجوا في مسيرات سلمية، وعنيفة، لكن شيئاً لم يتغير في وضعهم الاجتماعي، مع أنهم من حاملي الشهادات العلمية العليا.
ويؤكد المواطن أحمد سعد اللّه (26 عاما)، وهو عاطل عن العمل من حي الكرمة بالقصرين، أن الوضع مأساوي إلى أبعد الحدود، وأن حادث المرور كشف عن الوجه الحقيقي للقصرين من نقص في المعدات والإطارات الطبية، وتدهور البنية التحتية. ويبين أنه لم يتم إيجاد سيارات إسعاف لنقل الجرحى، وأن المواطنين كانوا ينقلونهم بواسطة شاحنات خاصة، كما أن جثث الضحايا كانت ملقاة على الأرض، في ظل عدم وجود أي مكان لإيوائها داخل المستشفى الجهوي، وفق قوله. ويضيف أحمد في حديث مع "العربي الجديد"، على هامش مشاركته في مسيرة احتجاجية يوم الخميس الماضي، أن زيارة الوزراء ورئيس حكومة، يوسف الشاهد، أتت متأخرة جداً. ويتابع المواطن التونسي أن الوعود نفسها تكررت، لكن أغلبها لا تنفذ، أو هي غير قابلة للتنفيذ، مشيراً إلى أن حكام البلاد يقومون بنفس المماطلات، منذ الثورة وحتى الآن. ويشدد على أن الزيارات الرسمية لمسؤولي الدولة تأخرت كثيراً، قائلاً إن أهل القصرين هم عبارة عن موتى على قيد الحياة، قبل أن يضيف أن الحادث كشف عن عمق الألم الذي يعيشونه، لا سيما أن المنطقة تعاني من ارتفاع نسبة العاطلين عن العمل وغياب التنمية.
اقــرأ أيضاً
ويطالب بسام ميساوي (29 عاماً)، بالإحاطة بعائلات الشهداء وبحقوق الأمنيين والعسكريين الذين وقعوا ضحية "الإرهاب" ولم يتم الالتفات إلى أسرهم أو إلى أطفالهم. ويضيف لـ"العربي الجديد" أنه من المعيب، في ظل الحرب التي تخوضها القصرين ضد "الإرهاب"، أن يتم إرسال الجرحى إلى محافظات أخرى لتلقي العلاج، وألا يعثر داخل المستشفى على معدات لنقل الجرحى، في حين كان الأوْلى أن يكون المستشفى مجهزاً بأرقى التجهيزات. ويعتبر بسام أن زيارة المسؤولين لا معنى لها في ظل ما تعانيه الجهة من مشاكل، مشيراً إلى أن تعامل الحكومة مع الأحداث يأتي دائماً بشكل متأخر جداً، ولا تستغرق الزيارات سوى دقائق معدودة، تُردد خلالها نفس عبارات المواساة وتنتهي بـ"كان الله في عونكم".
ويؤكد الشاب عماد نصرالله (27 عاماً)، أن أهالي القصرين يفتقدون لمسؤولين محليين فاعلين، أما بقية المسؤولين الحكوميين فلا يكترثون بمصير أهالي القصرين.
ويروي رضا العباسي، الذي كان موجوداً ساعة وقوع حادث السير يوم الأربعاء في السوق الأسبوعي بخمودة، لـ"العربي الجديد"، أن الحادث كان مرعباً بكل ما يحمله الوصف من معنى. ويضيف أن الناس سمعوا صوت مزمار شاحنة تسير بسرعة فائقة في المنحدر الذي يشق السوق، ولم تدم المسألة غير لحظات حتى شاهدوها تصطدم بحافلة نقل، لتحصد عدة أرواح وليتفرق الجمع وينطلق الناس في التدافع بسبب الهلع. غير أن الحادث المفجع تطور بنحو غير معقول، بعدما واصلت الشاحنة انحرافها وسيرها لتصطدم بعمود كهرباء (التوتر العالي) وتسقطه. ويرى رضا، وهو موظف حكومي، أن سكان القصرين يعتبرون الأكثر صبراً على الحكومات المتعاقبة، على الرغم مما ترزح تحته المنطقة من مشاكل بنيوية. تجدر الإشارة إلى أن القصرين تشهد أعلى نسبة انقطاع عن التعليم وأعلى نسبة فقر، وتظهر من بين أكثر المناطق التي شهدت حوادث انتحار من شباب يائسين من البطالة، أو من كهول أثقلوا بمصاريف عائلاتهم، الكبيرة العدد، ولم يجدوا لها القوت ولا الكساء، وبينهم من عمل لسنين طويلة من أحل توفير التعليم الجامعي لأولادهم، أملا في أن تتحسن أوضاعهم الاجتماعية، لكنهم في النتيجة عجزوا عن إيجاد فرص عمل.
وتحولت القصرين في ذهن سكانها إلى سجن كبير. فلا بنية تحتية ولا مدارس لائقة ولا مستشفيات مجهزة. وتفتقد بعض قراها للخدمات الصحية. ويقول رضا إنها أكثر الجهات المخدوعة في البلاد، إذ تتوالى زيارات المسؤولين إليها، إثر الحوادث والشتاء القاسي الذي يخلف مآسيَ من نوع آخر، لكن دون أي جدوى. ويأسف هذا الموظف الحكومي، في حديث لـ"العربي الجديد"، لغياب أي التفاتة عاجلة للاهتمام بالحاجيات الأساسية، ولإطلاق مشاريع تنموية تخلق أملاً لدى العاطلين عن العمل بعيش كريم.
وتعكس هذه التصريحات حالة من الخيبة ويأساً من النخبة السياسية، حكومة وأحزاباً. ونشر بعض الأفراد على مواقع التواصل الاجتماعي، سلسلة من الصور للرئيس الباجي قائد السبسي، مرفقة بتعليقات قد تغني عن أي استنتاج، وهي: "السبسي يطمئن على السياح الأجانب ساعات بعد هجوم سوسة الإرهابي". وجاء في التعليق الثاني "الباجي قائد السبسي يركض لفرنسا لتعزية هولاند بعد هجمات باريس". وفي نفس الإطار يسخر كاتب تعليق ثالث بقوله إن "الباجي قائد السبسي يزور سفير فرنسا بمقر إقامته ليعزيه بعد هجمات نيس". أما التعليق الرابع فينتقد بشدة غياب الاهتمام الرسمي بوضع القصرين، إذ جاء فيه أنه "بعد عملية القصرين الإرهابية وحادثة اصطدام الشاحنة بالحافلة التي أدت إلى مقتل العشرات حرقاً، لا حياة لمن تنادي".
وحاول رئيس الحكومة الجديد، يوسف الشاهد، أن يقلص من حجم هذا الغضب. وأرسل وزراء الدفاع والصحة والنقل إلى القصرين، قبل أن يتوجه بنفسه إليها يوم الخميس، لتفقد ثكنة عسكرية والمستشفى الجهوي وإقليم الحرس الوطني، ومعاينة مكان العملية الأمنية التي حصلت في حي الكرمة، وأدت إلى مقتل "إرهابيين اثنين". وأكد الشاهد، خلال زيارته، أن القصرين تعتبر أول خط دفاع لتونس وهي مفخرة لكل التونسيين.
لكن النائب عن محافظة القصرين، مثل الجبهة الشعبية (اليسارية)، أيمن العلوي، يعتبر في حديث لـ"العربي الجديد" أن الأداء السياسي لم يتغير، وكانت زيارات الوزراء كرنفالية وانفعالية، في حين أن الجهة تتطلب قرارات صارمة واستثنائية وعاجلة لأنها أسكتت في بداية العام إثر احتجاجاتها الاجتماعية في يناير/كانون الثاني الماضي، ولم يتم إسنادها باعتمادات (مالية) استثنائية أو الانطلاق في الإصلاحات اللازمة. ويقول العلوي إن حادث السير لم يكن عرضياً؛ لأن طريق "خمودة" تسمى "طريق الموت" من الأهالي، بفعل تتكرر الحوادث عليها سنوياً. ويضيف أنه لم يتم اتخاذ الإجراءات الوقائية، وكل سائق لا يعرف ثنايا المكان وخطورة الطريق جيداً سيكلف البلاد ضحايا وأضراراً مادية جسيمة، وهو ما يدعو للتساؤل حول المحاسبة، إذ لم يتم إصدار قرارات بمحاسبة المسؤولين عن المجلس القروي ولا المحافظ ومن معه، بحسب تأكيد العلوي، الذي يتابع أنه لم تتم محاسبة القائمين على الطريق ولا شرطة المرور ولا أي من الضالعين في الأزمة التي يشهدها الطريق الرابط بين خمودة وتالة.
واعتبر العلوي أن القصرين باتت اليوم أمام منعطف تاريخي وسياسي للحكومة، فإما أنها ستسخّر لها الاعتمادات اللازمة وتراعي خصوصية المكان، وتكلف الموارد البشرية اللازمة لمتابعة تنفيذ المشاريع، وإلا فليتحملوا ردود أفعال المواطنين فيها، وفق تحذيره. وشدد على أن القصرين وجميع قراها بحاجة عاجلة لرصد ميزانية استثنائية لقطاع الصحة، مذكراً بأن الجهة التي تتجاهلها الحكومات المتعاقبة هي أرض الشهداء التي دفعت أرواحاً في الثورة وفي الهجمات الإرهابية؛ وهي التي تنتفض كل سنة احتجاجاً على الفقر والجوع والتهميش، وفق تعبيره. كما تحولت مدنها إلى فيالق من الأحياء الشعبية المليئة بالمعطلين عن العمل ومن الجريمة المنظمة والإجرام، بحسب تأكيده.
من جهته، يقول ابن القصرين، القيادي في حركة النهضة، وليد البناني، لـ"العربي الجديد" إن ما حصل في القصرين كارثة كبيرة، وأن الجهة تلقت الكثير من الوعود، مضيفاً أنه على الرغم من التخطيط لكثير من المشاريع وتخصيص اعتمادات لها، إلا أن أغلبها لم تنفذ، مثل بناء خمسة أقسام في المستشفى الجهوي، ومؤكداً أن رئيس الحكومة الذي زار القصرين فوجئ بعدم تنفيذ المشروع. ويشير إلى أن القصرين تحتل مراتب متأخرة في المجال الصحي، ولديها معدل تنمية بحدود 0,16، وتعاني من نقص كبير في عدد الأطباء. ويرى أن الإرادة السياسية غير موجودة، على الرغم من أن القصرين في قلب الأحداث الإرهابية. ويلفت إلى أن نواب القصرين، وهو واحد منهم، سبق أن طالبوا بضرورة الإسراع بإنجاز المشاريع المعطلة وأنهم لا يملكون سوى مؤازرة الأهالي في مصابهم وفي محنتهم وألمهم.
في ما يتعلق بموقف الحكومة، أعلنت وزيرة الصحة سميرة مرعي، في حديث لـ"العربي الجديد" أن الإجراءات بشأن مستشفى القصرين إثر حادث السير أخيراً، انقسمت إلى قسمين: أولاً، سيتم التعاطي بشكل فوري وعاجل مع الأزمة، وسيتم ثانياً إصلاح الوضع الصحي في الجهة، وفق تأكيدها. وفي إطار الإجراءات العاجلة، أصدرت وزيرة الصحة يوم الحادث قراراً بخروج جميع سيارات الإسعاف وطواقمها من الولايات المجاورة ومستشفيات الاختصاص نحو القصرين، كما اصطحبت طاقماً طبياً أشرفت عليه بنفسها، وهو تولى مرافقة طاقم مستشفى القصرين في الكشف على المصابين، الأمر الذي ساهم بتطويق الأزمة وحفظِ كثير من الأرواح على حد قولها. وفي ما يتعلق بإصلاح الوضع الصحي، كشفت مرعي لـ"العربي الجديد" أن ميزانية قدرها 6,5 ملايين دينار تونسي (ثلاثة ملايين دولار أميركي) رصدت لإصلاح مستشفى القصرين واقتناء آلات الكشف عالية الدقة، بالإضافة إلى تهيئة قسم نقل الدم (بنك الدم) وقسم الإنعاش وتدعيم المستشفى بالموارد البشرية اللازمة له.
تجدد التحركات الاحتجاجية
لكن أهالي "خمودة" الذين عاشوا المأساة خرجوا أمس إلى الاحتجاج، وأغلقوا الطريق الرابطة بين خمودة ومدينة القصرين في موقع حادث المرور. وطالبوا بتحسين البنية التحتية للطرقات وإحداث الطريق الحزامية إضافة إلى تغيير مكان السوق الأسبوعي، وهو ما تم، على ما يبدو، بقرار من محافظ القصرين. واحتج أهالي خمودة أيضاً على اكتفاء الشاهد بزيارة القصرين، حيث المستشفى الجهوي والثكنة، وعدم زيارة قريتهم والاطلاع على ظروفهم. وخرج شباب مدينة القصرين للاحتجاج يوم الخميس بوسط المدينة، مطالبين بالتنمية ومنددين بـ"الإرهاب"، ومعبرين عن غضبهم من طريقة تعامل الحكومات المتتالية مع وضع المحافظة.
غير أن هذا الغضب من المسؤولين الحكوميين طاول أيضاً الأحزاب التونسية، التي أثبتت بدورها فشلها في التعاطي مع مأساة القصرين. واكتفى أغلبها ببيانات من العاصمة، أو تعليقات وبكاء على الأطلال، ولم يتوجه أي زعيم حزبي إلى القصرين لمعاينة الوضع في الميدان ومواساة الأهالي.
إلى ذلك، دعا "الاتحاد العام التونسي للشغل" الحكومة التونسية إلى تحمّل مسؤوليتها في إعلان جهة القصرين جهة منكوبة تمرّ بظروف خاصّة، اختلط فيها التهميش بالفقر والإرهاب بالكوارث والجوائح. كما طالب في بيان له يوم الخميس، باتخاذ إجراءات استثنائية في العلاقة بآثار الحادث أو بما اتّصل بالوضع الأمني والاجتماعي بالجهة. ودعا وسائل الإعلام إلى لعب دورها في التعريف بمعاناة أهالي القصرين.
وتشير هذه الالتفاتة من قبل الشعب التونسي إلى أن سرعة استجابة المواطنين لواجب التضامن والإغاثة تفوق سرعة تحرك الحكومة وتحملها لمسؤولياتها، على الرغم من أن ردة الفعل هذه المرة، كانت أفضل إلى حد ما من سابقاتها. ولم يلاحظ تغيير جوهري في الأداء الحكومي، لأن المآسي في القصرين تتكرر، وتتلاحق، ولكن الحال لا يتغير.
ولفهم حجم المفارقة "القصرينيّة"، تكفي جولة صغيرة على صفحات شباب القصرين على مواقع التواصل الاجتماعي، للوقوف على استعداد الأهالي للدفاع عن مدينتهم وبلدهم، على الرغم من كل النسيان والتهميش، أو "الحقرة" أي الاحتقار، وفق التعبير المحلي.
"الأربعاء الأسود"
ولأن المأساة واحدة، فقد أودى حادث سير كارثي بعدد من أهالي القصرين، ما حوّل أربعاء القصرين إلى "الأربعاء الأسود"، وزاد من حجم معاناة الفقر والبطالة اليومية، إلى حياة أصبحت مستحيلة. ولم تنفع احتجاجات الشباب المستمرة منذ سنوات في تغيير شيء يذكر في القصرين. فقد خرجوا في مسيرات سلمية، وعنيفة، لكن شيئاً لم يتغير في وضعهم الاجتماعي، مع أنهم من حاملي الشهادات العلمية العليا.
ويؤكد المواطن أحمد سعد اللّه (26 عاما)، وهو عاطل عن العمل من حي الكرمة بالقصرين، أن الوضع مأساوي إلى أبعد الحدود، وأن حادث المرور كشف عن الوجه الحقيقي للقصرين من نقص في المعدات والإطارات الطبية، وتدهور البنية التحتية. ويبين أنه لم يتم إيجاد سيارات إسعاف لنقل الجرحى، وأن المواطنين كانوا ينقلونهم بواسطة شاحنات خاصة، كما أن جثث الضحايا كانت ملقاة على الأرض، في ظل عدم وجود أي مكان لإيوائها داخل المستشفى الجهوي، وفق قوله. ويضيف أحمد في حديث مع "العربي الجديد"، على هامش مشاركته في مسيرة احتجاجية يوم الخميس الماضي، أن زيارة الوزراء ورئيس حكومة، يوسف الشاهد، أتت متأخرة جداً. ويتابع المواطن التونسي أن الوعود نفسها تكررت، لكن أغلبها لا تنفذ، أو هي غير قابلة للتنفيذ، مشيراً إلى أن حكام البلاد يقومون بنفس المماطلات، منذ الثورة وحتى الآن. ويشدد على أن الزيارات الرسمية لمسؤولي الدولة تأخرت كثيراً، قائلاً إن أهل القصرين هم عبارة عن موتى على قيد الحياة، قبل أن يضيف أن الحادث كشف عن عمق الألم الذي يعيشونه، لا سيما أن المنطقة تعاني من ارتفاع نسبة العاطلين عن العمل وغياب التنمية.
ويطالب بسام ميساوي (29 عاماً)، بالإحاطة بعائلات الشهداء وبحقوق الأمنيين والعسكريين الذين وقعوا ضحية "الإرهاب" ولم يتم الالتفات إلى أسرهم أو إلى أطفالهم. ويضيف لـ"العربي الجديد" أنه من المعيب، في ظل الحرب التي تخوضها القصرين ضد "الإرهاب"، أن يتم إرسال الجرحى إلى محافظات أخرى لتلقي العلاج، وألا يعثر داخل المستشفى على معدات لنقل الجرحى، في حين كان الأوْلى أن يكون المستشفى مجهزاً بأرقى التجهيزات. ويعتبر بسام أن زيارة المسؤولين لا معنى لها في ظل ما تعانيه الجهة من مشاكل، مشيراً إلى أن تعامل الحكومة مع الأحداث يأتي دائماً بشكل متأخر جداً، ولا تستغرق الزيارات سوى دقائق معدودة، تُردد خلالها نفس عبارات المواساة وتنتهي بـ"كان الله في عونكم".
ويؤكد الشاب عماد نصرالله (27 عاماً)، أن أهالي القصرين يفتقدون لمسؤولين محليين فاعلين، أما بقية المسؤولين الحكوميين فلا يكترثون بمصير أهالي القصرين.
وتحولت القصرين في ذهن سكانها إلى سجن كبير. فلا بنية تحتية ولا مدارس لائقة ولا مستشفيات مجهزة. وتفتقد بعض قراها للخدمات الصحية. ويقول رضا إنها أكثر الجهات المخدوعة في البلاد، إذ تتوالى زيارات المسؤولين إليها، إثر الحوادث والشتاء القاسي الذي يخلف مآسيَ من نوع آخر، لكن دون أي جدوى. ويأسف هذا الموظف الحكومي، في حديث لـ"العربي الجديد"، لغياب أي التفاتة عاجلة للاهتمام بالحاجيات الأساسية، ولإطلاق مشاريع تنموية تخلق أملاً لدى العاطلين عن العمل بعيش كريم.
وتعكس هذه التصريحات حالة من الخيبة ويأساً من النخبة السياسية، حكومة وأحزاباً. ونشر بعض الأفراد على مواقع التواصل الاجتماعي، سلسلة من الصور للرئيس الباجي قائد السبسي، مرفقة بتعليقات قد تغني عن أي استنتاج، وهي: "السبسي يطمئن على السياح الأجانب ساعات بعد هجوم سوسة الإرهابي". وجاء في التعليق الثاني "الباجي قائد السبسي يركض لفرنسا لتعزية هولاند بعد هجمات باريس". وفي نفس الإطار يسخر كاتب تعليق ثالث بقوله إن "الباجي قائد السبسي يزور سفير فرنسا بمقر إقامته ليعزيه بعد هجمات نيس". أما التعليق الرابع فينتقد بشدة غياب الاهتمام الرسمي بوضع القصرين، إذ جاء فيه أنه "بعد عملية القصرين الإرهابية وحادثة اصطدام الشاحنة بالحافلة التي أدت إلى مقتل العشرات حرقاً، لا حياة لمن تنادي".
وحاول رئيس الحكومة الجديد، يوسف الشاهد، أن يقلص من حجم هذا الغضب. وأرسل وزراء الدفاع والصحة والنقل إلى القصرين، قبل أن يتوجه بنفسه إليها يوم الخميس، لتفقد ثكنة عسكرية والمستشفى الجهوي وإقليم الحرس الوطني، ومعاينة مكان العملية الأمنية التي حصلت في حي الكرمة، وأدت إلى مقتل "إرهابيين اثنين". وأكد الشاهد، خلال زيارته، أن القصرين تعتبر أول خط دفاع لتونس وهي مفخرة لكل التونسيين.
لكن النائب عن محافظة القصرين، مثل الجبهة الشعبية (اليسارية)، أيمن العلوي، يعتبر في حديث لـ"العربي الجديد" أن الأداء السياسي لم يتغير، وكانت زيارات الوزراء كرنفالية وانفعالية، في حين أن الجهة تتطلب قرارات صارمة واستثنائية وعاجلة لأنها أسكتت في بداية العام إثر احتجاجاتها الاجتماعية في يناير/كانون الثاني الماضي، ولم يتم إسنادها باعتمادات (مالية) استثنائية أو الانطلاق في الإصلاحات اللازمة. ويقول العلوي إن حادث السير لم يكن عرضياً؛ لأن طريق "خمودة" تسمى "طريق الموت" من الأهالي، بفعل تتكرر الحوادث عليها سنوياً. ويضيف أنه لم يتم اتخاذ الإجراءات الوقائية، وكل سائق لا يعرف ثنايا المكان وخطورة الطريق جيداً سيكلف البلاد ضحايا وأضراراً مادية جسيمة، وهو ما يدعو للتساؤل حول المحاسبة، إذ لم يتم إصدار قرارات بمحاسبة المسؤولين عن المجلس القروي ولا المحافظ ومن معه، بحسب تأكيد العلوي، الذي يتابع أنه لم تتم محاسبة القائمين على الطريق ولا شرطة المرور ولا أي من الضالعين في الأزمة التي يشهدها الطريق الرابط بين خمودة وتالة.
واعتبر العلوي أن القصرين باتت اليوم أمام منعطف تاريخي وسياسي للحكومة، فإما أنها ستسخّر لها الاعتمادات اللازمة وتراعي خصوصية المكان، وتكلف الموارد البشرية اللازمة لمتابعة تنفيذ المشاريع، وإلا فليتحملوا ردود أفعال المواطنين فيها، وفق تحذيره. وشدد على أن القصرين وجميع قراها بحاجة عاجلة لرصد ميزانية استثنائية لقطاع الصحة، مذكراً بأن الجهة التي تتجاهلها الحكومات المتعاقبة هي أرض الشهداء التي دفعت أرواحاً في الثورة وفي الهجمات الإرهابية؛ وهي التي تنتفض كل سنة احتجاجاً على الفقر والجوع والتهميش، وفق تعبيره. كما تحولت مدنها إلى فيالق من الأحياء الشعبية المليئة بالمعطلين عن العمل ومن الجريمة المنظمة والإجرام، بحسب تأكيده.
في ما يتعلق بموقف الحكومة، أعلنت وزيرة الصحة سميرة مرعي، في حديث لـ"العربي الجديد" أن الإجراءات بشأن مستشفى القصرين إثر حادث السير أخيراً، انقسمت إلى قسمين: أولاً، سيتم التعاطي بشكل فوري وعاجل مع الأزمة، وسيتم ثانياً إصلاح الوضع الصحي في الجهة، وفق تأكيدها. وفي إطار الإجراءات العاجلة، أصدرت وزيرة الصحة يوم الحادث قراراً بخروج جميع سيارات الإسعاف وطواقمها من الولايات المجاورة ومستشفيات الاختصاص نحو القصرين، كما اصطحبت طاقماً طبياً أشرفت عليه بنفسها، وهو تولى مرافقة طاقم مستشفى القصرين في الكشف على المصابين، الأمر الذي ساهم بتطويق الأزمة وحفظِ كثير من الأرواح على حد قولها. وفي ما يتعلق بإصلاح الوضع الصحي، كشفت مرعي لـ"العربي الجديد" أن ميزانية قدرها 6,5 ملايين دينار تونسي (ثلاثة ملايين دولار أميركي) رصدت لإصلاح مستشفى القصرين واقتناء آلات الكشف عالية الدقة، بالإضافة إلى تهيئة قسم نقل الدم (بنك الدم) وقسم الإنعاش وتدعيم المستشفى بالموارد البشرية اللازمة له.
تجدد التحركات الاحتجاجية
لكن أهالي "خمودة" الذين عاشوا المأساة خرجوا أمس إلى الاحتجاج، وأغلقوا الطريق الرابطة بين خمودة ومدينة القصرين في موقع حادث المرور. وطالبوا بتحسين البنية التحتية للطرقات وإحداث الطريق الحزامية إضافة إلى تغيير مكان السوق الأسبوعي، وهو ما تم، على ما يبدو، بقرار من محافظ القصرين. واحتج أهالي خمودة أيضاً على اكتفاء الشاهد بزيارة القصرين، حيث المستشفى الجهوي والثكنة، وعدم زيارة قريتهم والاطلاع على ظروفهم. وخرج شباب مدينة القصرين للاحتجاج يوم الخميس بوسط المدينة، مطالبين بالتنمية ومنددين بـ"الإرهاب"، ومعبرين عن غضبهم من طريقة تعامل الحكومات المتتالية مع وضع المحافظة.
غير أن هذا الغضب من المسؤولين الحكوميين طاول أيضاً الأحزاب التونسية، التي أثبتت بدورها فشلها في التعاطي مع مأساة القصرين. واكتفى أغلبها ببيانات من العاصمة، أو تعليقات وبكاء على الأطلال، ولم يتوجه أي زعيم حزبي إلى القصرين لمعاينة الوضع في الميدان ومواساة الأهالي.
إلى ذلك، دعا "الاتحاد العام التونسي للشغل" الحكومة التونسية إلى تحمّل مسؤوليتها في إعلان جهة القصرين جهة منكوبة تمرّ بظروف خاصّة، اختلط فيها التهميش بالفقر والإرهاب بالكوارث والجوائح. كما طالب في بيان له يوم الخميس، باتخاذ إجراءات استثنائية في العلاقة بآثار الحادث أو بما اتّصل بالوضع الأمني والاجتماعي بالجهة. ودعا وسائل الإعلام إلى لعب دورها في التعريف بمعاناة أهالي القصرين.