القصة بوصفها شيوعاً وفضيحةً

02 ابريل 2015
ليست القصة ترفاً بمقدار ما هي تخفيف من ألم(Getty)
+ الخط -

تكادُ القصةُ أن تبتلى بكل الشرور، ابتداءً من القول:" كلُّ القصة وما فيها" فالجملة العامية هذهِ، تحتمل تفكيكاً معينا للبحثِ عن هذه القصة التي يكون فيها كلّ شيء، وقابلة لأن تطوي بين سطورها حدثاً وأشخاصاً وسرداً وحواراً، ستشكل فيما بعد عالما قائما بذاته، تتفاعل فيه الأصوات مع الأدوات مع الوسط، المكان والزمان، وبالتالي تحديداً للمبنى والمتن الحكائيين، وهذه الأخيرة هي ما يرتبط بالناقد وعقل المتلقي الباحث في سردية القصة وعلاقتها بالواقع إذا لم تكن الواقع كله، خاصة في مجتمع أو وضع سياسي أو اجتماعي ملتبسٍ، يحول القصة من كونها فناً إلى قصة تساعده في استنهاض عالمه المرتبك، كذلك تساعده على ضبط شعاراته سواء كانت نبيلة أم غير ذلك.

السردُ أغواءٌ، وكانت أهلنا تقول: "بدأ يسرد" في إحالة واضحة إلى وصف الشفاهية بالكذب، وهو ما يجعلنا نحن كمستمعين أن نتحلق حول شخص ما، يحبك كلامه بالمحسنات ويلف ويدور حول الحدث، ليحوله من قصة صغيرة جدا مشكلة بمجموع مقتضب من المفردات إلى فضاء يحيط بنا من كل الجوانب، بل أحسب أن كل شخص منا نحن -المتلقين- يرى فيها ما ينعكس على مرآة نفسه، فلا يعود ينعتها بالكذب، انطلاقا من سردية فهم القصة بأوليتها المقتضبة، لكن بأوليتها وخاتمتها حيث أغواءها.

لقد قلتُ بما يحيلُ هذا الفن إلى اللافن حين أقول باجتماعية القصة وظرفها وشرطها الذي تأتي فيه، مثلاً في حياة شعب يتعذَب، يدفع يومياً من لحمه ودمه، لا تكون القصة ترفا، بمقدار ما تكون حاجة مخففة من ألم أو فقد أو رحيل مؤقتٍ، كالنزوح الكبير للسوريين، وعندها، لا بدّ من قصص تنتقل من مكان إلى آخر، تتحدث عن العطبِ والرض النفسي، وتقدم علاجاً مخدّراً في غياب العلاج المتكامل أساساً، فالحرب ما زالت على أشدّها، ولا ملمح في الراهن، يشير إلى فرصة مطمئنة، تجعلُ من الإعمار الذي بدوره صار قصة وفيها الكثير، هذا البناء البعيد، لم يصبح نداً قوياً للخراب، بل ما زال مهزوما، ويعطي الشرعية للخراب لأن يتسيّدَ المشهد، ويلفَّ الحدث بدموية، ليست من الضرورة أن تكون حمراء بلون الدم، لتكونَ فجائعية أكثر، ويكتفى بالمتوفر من المشهد، فيتسمُ بالانكسار والهزيمة ونكران الحياة.

في هذا اليوم الخافت، كلنا يقول قصته بشكل مختلف، كنت قبل أقف على تلة قريبة من قريتي فأتحدث عن مدفأة تعمل بروث الغنم، يشكل دخانها سحابات فوق البيوت الطينية البائسة، في الصباح كنت أتحدث بعد المطر عن الوحل وغرقنا فيه كنعاج هزيلة، كنا جميعا ننطلق إلى وصف المشهد من الخارج، كنا مطمئنين أكثر، وربما غير مشغولين بقضايا كبرى، وربما كنت على الأقل أؤيد رينيه شار بأن الشعر على سبيل المثال قضية بحد ذاته، ولا حاجة لزج قضية كبرى فيه ليكون متكاملا، وهو ما ينسحب على عموم الأجناس الأدبية. بعضُ الحكايات رواية، في المقابل بعض الروايات حكاية، ما يجعل من مراجعة نقدية للرواية أمراً وارداً، بحيث تضبط الرواية متلبسةً بما لا يقبل فكاكاً من السؤال: هل كانَ الراوي صاحب شعارات فضفاضة ووجد الوقت المناسب، ليسوّق منجزه الأقل وهجاً فيما لو خضع لتوصيفات النقد، وهل كانت الحكاية من النبل وفيها كم من العلاقة المباشرة بالحدث، تجعل من الشعور المبدئي بالناس والانتماء لهم مادة خالصة، ومن ثمَّ ألا يمكن لهذا التملص من الرواية المدرسية خيانة لفن الروي وبالتالي القص؟! هي أسئلة تحقق جزءاً من فهمنا للقصة بوصفها الشائع وبوصفها تنوس بين الحقيقة/ الواقع وبين الكذبة/ الفن.


القصة فضيحةٌ:

يقال: شاعت القصة، تفكيك الجملة هذه لغة يوحي بأن أمراً مدبّراً خلفها، ولا يمكن قراءة الإشاعة إلا بوصفها فضيحة على الأغلب، وإلا لا تسمى إشاعة، تسمى خبراً أو إعلاناً، أو إيذانا ببدء عمل ما، ولما كانت إشاعة فهي بالضرورة تحمل طمأنينة لطرف على حساب طرف آخر، أي أن من يطلقها بالتأكيد يرسلها كرسالة باتجاه وسط آخر، يتأذى منها، ويدفع للخلاص منها، وهنا يمكن القول أنها حققت غائيتها وضربت في مكان مقتل، وتصبح هذه الفضيحة/ القصة في وقتٍ إحباطا لأحد ونصرا لأحد آخر، طرف ينام ملء العين عن شواردها وآخر تقضُّ مضجعهُ.

في الحالة السورية، لا ينكر أحد كمية القصص المتداولة ورسائلها الكثيرة، فالتي تنحاز إلى الأكثرية المتألمة، صاحبة الحيف الأكبر والخسارات، تكون قصتها نبيلة وغالبا ترتبط بحكايات تتعلق ببطولات تحمل الإنساني وتنتصر له، اجتماعية، منصفة، لأن وضعها المتألم والملتبس، لا يبيح لها وقتا ومكانا مناسبا للعمل فنيا، وتبنى في الإطار الحكائي المحتفي بالقيم والمثل وتعرية الفساد والظلم، في حين أن طرفاً آخر يرى أنه مهزوم ومستهدف، سوَّق لمفهوم" المؤامرة الكونية" للحدِّ الذي صدّق فيهِ أكذوبته، وراح ينسجُ قصته/الفضيحة، ليسم خصومه حتى هؤلاء غير الحاملين للأداة الجارحة ضده بأنهم لقطاء وأولاد حرام ولا خير فيهم، فخروجهم من الحكم على الحاكم معصية ومثلب، لطالما برأيه، سيتحملون وزره، ويدفعون كفارته، وما كلُّ ما يهدر من الأرواح والثروات إلا نوعاً من العقاب (المخفف) فالأيام القادمة وفي غياب من يتلقى الرسالة ممن لديهم قدرة على لجم هذا الطاغوت، سيجعل من العقوبة الحالية حداً مقبولاً من الفضيحة.

إذا القصة في حال شيوعها ضمنَ هذه الشروط التي تكاد تكونُ غامضة ومبهمة، تنهض باسمين متنافرين إن لم نقل متضادين: النبل إذا كان منطلقها الوسط الأكثر تضررا، والفضيحة إذا كانَ منطلقها الوسط صاحب الأذى. والأذى هنا كبير، كبير جداً.


(سورية)

المساهمون