القدس وليكن ما يكون

30 يناير 2020
(مقدسيون يؤدّون صلاة عيد الفطر، 2019، تصوير: أحمد الغرابلي)
+ الخط -

أعود إلى أخي والسائق، فأراهما صامتين، محلّقين، كلّ في عالمه. ألتفت يميناً ويساراً، فأعرف أننا على وصول وشيك.

- لا تنس، إيّاك أن تذهب مباشرة لمستشفى المطّلع. إنها فرصة ونريد أن نتفرّج.

- حاضر.

- عشر دقائق ونصل. يقول السائق.

- مهِلْ عليكْ.

يضحك بتواطؤ، ويلفّ بنا في غير مسارنا.

- سأريكم وأُفسّحكم.

أنظر حولي. صرت أعرف بعض أسماء الشوارع وبعض أسماء الأحياء في المدينة، بقسميْها. إننا الآن على مقربة من التلّة الفرنسية، وقبلها بقليل رأينا مقبرة الأميركان. مقبرة كبيرة المساحة وفي موقع استراتيجي من قلب القدس. فأيّ ظلم!

ندخل في طرق مجهولة الأسماء لديّ، نهبط ونصعد شعاباً ومرتفعات. ثم ندخل في نفق حديدي، ونجتاز مسافة قليلة، لنجد أنفسنا محاذين لمنطقة "الجامعة العبرية". دقائق أخيرة ونصل بوابة "المطّلع".

كم اشتقت إليك أيها القصر الإمبراطوري المنيف!

كم اشتقت إليك يا نور النهار!

كم اشتهيت هواءك أيتها المدينة!

حين عدت إلى زوجتي وأم أولادي، لاحظتْ فوراً نضارة وجهي، وغياب طابع التجهّم عنه. لكأنني خارج من نشوة حسيّة عميقة.

- لا تذهبي بظنونك بعيداً، فقط هو هواء وطعام القدس! وضحكنا. ولم يطل الوقت، مكثتُ بغزة أسبوعين، فعاد إليّ التجهم، بعد يومين. أما التفتّح والنضارة، فإيدكْ عليهما!

أُفلسف الأمر لأخي على طريقتي المازحة:

- هنا نحن محكومون بالإيروس، وأما هناك، فأنت تُعرّف على جلدك: بالثانتوس!

يفرقع أخي ضاحكاً:

- كُفّ يا رجل!

- والله ما أنا بكافف. ألا أقول الحقيقة؟

- بلى. لكنها حقيقة فلسفية ثقيلة الدم، وناشفة مثل شجرة مقطوعة.

ندخل ساحة المشفى، ونتوجّه فوراً لغرفة المنسق الاجتماعي. يستقبلنا بترحيب مَن صارت له معرفة بنا.

- غداً ستقابلون الدكتور المختصّ. والآن سأكتب لكم الورقة التي ستقدّمونها لإدارة الفندق.

مكثنا ربع ساعة عنده، ثم خرجنا، مبسوطين.

الآن، لدينا فسحة من الوقت، فلا داعيَ للذهاب للفندق والنوم في غرفتنا. سنتفسّح حولنا. أقول له ويوافق.

- هذه المرّة، سندفع ونصعد البرج!

- والله إِنك صادق. طزّ ع العشرة شيكل.

ندفع ونصعد، ومن أعلى نقطة فيه، نشاهد بالفعل البحر الميت، ونشاهد بالفعل الجبال الأردنية، كما نرى مناطق واسعة من القدس، في مشهد جليل مهيب لا يضاهى. وماذا أيضاً؟ نرى أيضاً جدار فصلهم العنصري، كما لم نره من قبل. جدار طويل رهيب يلتفّ كالأفعى، قاضماً مساحات هائلة من حجم المدينة العربية.

- أُنظر، أقول لأخي، ها هو جبل أبو غنيم هناك. ها هي مستوطناتهم الرهيبة على قمّته. إنها مدن لا مستوطنات. سأسأل عن أسمائها لأكتبها حين الحاجة.

ننزل محبطين مستاءين. بل ننزل مجروحين، كلانا. فالأحياء والقرى العربية التي رأيناها تكاد تختفي ببنائها القديم وإمكانياتها المحدودة، وسط غابة مستوطناتهم ذات الجبروت.

في الحديقة، نستقبل بعض المرضى الماكثين في الفندق. امرأة وبنتها الصغيرة. إنها جارة لنا، وقريبة لصديقٍ أمشي معه كلّ مساء. نستفسر عن أحوالها، عن بقائها، عن أخبار بعض من عرفناهم وعاشرناهم من نزيلي الفندق، فتخبرنا أنها بخير، وأنّ غالبية النزلاء عادوا إلى القطاع. واستُبدلوا بنزلاء جدد. لم يبق سوى أم علي وأم محمد وأبو خليل.

- أينكم أنتم؟ تسألنا.

- بعد ساعة سنكون في الفندق. هل تحتاجين لشيء؟

- لا. الحمد لله، كل شيء على ما يُرام. وتغادرنا.

لدينا الورقة التي تؤهّلنا للإقامة هناك، فلا داعي للعجلة. أنظر في تصريحهم: باق فيه خمس ساعات. ما رأيك؟ يفهم أخي المقصود، ويقول هيا بنا.

نمشي في الشارع الطويل، الواصل بين المشفى والفندق، وقبل أن نشارف نهايته، نقف على محطّة الباصات، بحذاء "مستشفى المقاصد". ومن هناك، مباشرة للبلدة القديمة وباحة الحرم الشريف.

فلا مشكلة قانونية الآن. لدينا التصريح، لم ينته بعد. لذا نزلنا ومشينا بثقة واطمئنان. اجتزنا بوابة باب العامود، ونزلنا الدرجات. كان ثمّة جنود شبان في المدخل: قوات من "حرس الحدود"، تجاوزناهم، ولم يلتفتوا إلينا. واصلنا هبوطنا، حتى وصلنا إلى أحد مداخل الحرم. ثمة أيضاً قوات حراسة وتفتيش كبيرة. أكثر من خمسين جندياً.

دخلنا ولم يأبهوا لنا، رغم خطورة الأحداث التي سبقت منذ أيام. فمنذ أيام، حاول عدد من متطرّفيهم المهووسين اقتحامَ المكان المقدّس، والعبث به، فتصدّى لهم المقدسيون، وأمطروهم بالحجارة والجزم، فضلاً عن العراك بالأيدي، والالتحام الساخن، ما أسفر عن خمسين إصابة في جانبنا، وما أشعل فتيل انتفاضة صغيرة، تكاد تشبه انتفاضة الـ 2000، بعد زيارة شارون المشؤومة إياها.

رغم كلّ هذه الأحداث القريبة الساخنة، التي لا تفصلها عنا سوى أيام، مررنا بسلام. ودخلنا فوراً من "باب الناظر" لمنطقة قبة الصخرة. التوتّر لا يزال مرئياً، وعيونهم التي ترقب دبّة النملة لا تزال تفعل فعلها هذا بكلّ نهم ووحشية مكبوتة. شعرت أننا جئنا في وقت غير مناسب: في الوقت الخطأ بالضبط. غير أنّ غريزة التحدي صعدت من أعماقي. سنصلّي هنا وسنرى المكان كلّه، وليكن ما يكون!

أخي حذِر بطبعه، لكنّ التصريح في جيبه يعطيه بعض ما يحتاج من أمان.

نمشي بضع خطوات: ألاحظ استنفار المقدسيين من حولي. المصلّون يأتون بأعداد كبيرة، رغم حظر الصلاة لمن هم دون سنّ الخمسين. هم متأهّبون لكلّ طارئ. يصلّون وعيونهم على القوات الكثيفة من العسكر حواليهم. معلش. لا حاجة للخشوع في الصلاة، في مثل هذه الأوقات والأحداث. ثمة ما هو أولى: الدفاع عن حرمة أغلى مقدّساتهم، أمام من لا يعرفون قداسة ولا أخلاقاً. سواء أكانوا من المهووسين دينياً، أم من الجنود.

نصلي ركعتين في مسجد الصخرة، المخصّص للنساء. يبتسم أخي حين يراني أركع وأسجد. أنتبه لذلك، وما إن أختم الركعتين، حتى أقول له إنها كانت صلاة وطنية لا دينية! يضحك ضحكة مقتضبة، وأشعر أنه بدأ يشعر بالخطر. فالخطر هنا يُحسّ ويُشم ويُرى وكأنه شيء مادي تماماً.

- ماذا ترى؟ أسأله.

- الأسلم أن نغادر على وجه السرعة. فالتواجد هنا، لمن هم في مثل حالي، محض جنون.

- كلامك صائب وعين العقل: لا داعي لمغامرة من هذا النوع.

ننسحب، ونعود، دون زيارة الأقصى القديم بقبّته الزرقاء.

نمرّ عن ثلاثة حواجز، ونفلت بمعجزة!

حين صعدنا درجات باب العامود، تنفّس أخي الصعداء.

- والله كنا مجانين، وأجنّ من المجانين.

- يا رجل!

- حبكتْ، ملقيناش وقت للصلاة غير هذا الوقت!

أبتسم، ثم أضحك.

- فعلاً، الشعراء يتبعهم الغاوون!

- هذا جزائي يا ابن أمي؟

- فعلاً، ما كان يجب أن أتبعك. ولن أتبعك في شيء قدّام.

نمشي باتجاه محطة الباصات القريبة. قوات كثيفة من حرس الحدود، راجلة، وراكبة أعنة الخيول. يدقّقون في هويات المارّة. ندلف لداخل المحطة ونركب باصنا بسرعة.

- شايف! نجونا بمعجزات لا معجزة واحدة. سأُسمّي هذا اليوم المشؤوم يومَ المعجزات. يتكلّم أخي بانفعال من نجا من شَرَك.

- لولا الله شايف وعارف، لكانوا حبسونا وضربونا، وبعدين رجّعونا لغزة، ومنعوني أنا من تلقّي العلاج للأبد!

اعتذرت له. جانبتني الحكمة هذا اليوم. أجل. ولن أكرّر هذا الخطأ، كيلا يتحوّل إلى خطيئة. فما كان لعاقل، حتى لو بيديه تصريح، أن يمرّ على الحرم اليوم. ثم إنّ تصريحنا لا يخوّلنا أبعدَ من مرورنا في الطريق ووصولنا إلى المستشفى ومكوثنا في الفندق. فهو تصريح علاج لا تصريح رحلة.

يمشي الباص رقم 75 بصعوبة، وسط زحمة المركبات والناس بباب العامود. ثم يدور دورة كاملة، ويتجه نحو جبل الزيتون.

أنظر لأخي: لا يزال يفكّر في ما رآه للتوّ. يحسب ويحسب، وأكيد أنّ "لو" ستجنّنه! فمع هذا الكم غير المسبوق من قوّاتهم، ومع انتشارهم في كل متر مربع، ما كان لغزاويّيَن أن يفلتا إلا بمعجزات!

- انسَ الموضوع. نجونا وانتهى الأمر. الشطارة ألا نعيدها.

- نعيدها؟؟ هذا ما ينقصنا يا رجل!

أُقهقه ضحكة عميقة: ضحكة جائحة: ضحكة مجنونة: ضحكة النجاة من الشرّير!

بركاتك يا محمد. بركاتك يا يسوع!

ينحدر الباص ويهبط، ثم يرتفع في طريق صاعد، ويعاود الهبوط فالهبوط. نلفّ لفّة جد طويلة، نمر خلالها عن أحياء شعبية في قاع الجبل، قبل أن نصل إلى منطقة الفندق.

ندخل البهو، ونسلّم على العامل ونعطيه الورقة.

يختار لنا الغرفة رقم 203 ونصعد إليها، فرحين سعداء بالنجاة، وبسلامة الوصول.

يغيّر أخي ملابسه، ويأخذ حمّاماً، ثم يستأذن وينام. أنظر أنا من الشبّاك. وأسترجع ما مضى، ولا أغفر لنفسي خطيئة ما ارتكبت.

فعلاً: كان يمكن أن يبهدلونا، أن يُرحلونا، أن يخسر أخي فرصة العلاج الثمينة هذه للأبد. وكلّ هذا مقابل إيش؟

أنظر إليه، نام الآن. استرخت ملامحه المتجهّمة قليلاً. أُفكّر فيه: إنه يواجه قدرَه ببراءة ونبل. فلا داعي لأن أكون أنا عبئاً عليه، بنهفاتي اللعينة ونزواتي تلك.

كلا: لن أغفر لنفسي.

أقوم عن السرير، وأغيّر ملابس السفر، وأنام بلا حمّام.


* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة، والنص حول تجربته في عام 2009

المساهمون