في مثل هذه الليالي سنة 145 للهجرة، كان رجل من فضلاء الثوار، صاحب علمٍ وأدب، يقال له: إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، يعقد اجتماعاً عسكرياً مهماً لقادة جيشه الثائر على "أبي جعفر المنصور"، الحاكم الباطش الظالم آنذاك.
كان عيسى بن موسى الأعوص، أحد أهمّ قادة المنصور، وصل بجيشه إلى "باخمرا" قرب الكوفة، كان جيشه أقلّ عدداً وعدّة من جيش إبراهيم، وإذا ما قدر عليه إبراهيم، كما كان متوقعاً، فإنه لن يكون بينه وبين المنصور شيء، ولدفنت الدولة العباسيّة في مهدها، وقامت دولة ثانية على يد هذا الرجل الفاضل، وتغيّر مجرى التاريخ الذي نعرفه!
وصل جيش عيسى منهكاً، وتداول الثوّار مع قائدهم خطّتهم معه، فقال رجل عمليّ من قادة عسكره: دعنا نبيّتهم، "أي نهجم عليهم في الليل، قبل أن يرتاحوا ويستعدّوا"، فرفض القائد إبراهيم، وبرر ذلك قائلاً: أكرهُ القتل!! فضحك أصحابه حينها، وقالوا له: تكره القتل، وتريدُ الخلافة!!
سرعان ما استعاد جيش عيسى قوّته، ودارت معركة حامية الوطيس في "باخمرا" قتل فيها إبراهيم، على يد الذين كره قتلهم، واحتزّ رأسه، وحمل إلى المنصور، فطوّف به على طبقٍ أبيض، كما ذكر المؤرّخون!
ثمة علاقة تاريخية بين السلطة والقتل، لا أقصد القتال هنا، بل فعل القتل تحديداً، كمّيته وكيفيّته وحجم فظاعته، وتفاصيل الإعلان عنه، كلّها كانت عناصر مهمّة جداً، وذات تأثير كبيرٍ على السلطة، وما أكثر أن يكون إيجابياً للأسف! (التطويف بالرؤوس مثلاً كان سنّة سلطويّة مؤكّدة، تستعمل في إعلان الظفر والنصر واستتباب الأمر)!
في حماه، ثار الناس على نظام حافظ الأسد، فقتلهم قتلاً لم تعرفهُ المدينة قبل ولا بعد، فلم يفكّر أحد بالثورة على نظامه، حتى ذهب جيل وحلّ جيل!
صدّام حُسين كذلك كثير القتل، لأعدائه، ومعارضيه حتى داخل حزبه ونظامه، ولم يزد ذلك القتل حكمه إلا متانة وقوّة، ولم يزحزح عن كرسيّه إلا باحتلال أجنبيّ، كما قال: لولا الأميركان ما قدرتُم عليّ!
في الحرب الأهلية الجزائرية، المسماة "العشرية السوداء"، قتل مئات آلاف الناس، وتعلّم الجزائريون جيداً طريق إيثار السلامة، وتشبّثوا، قوّة تعجّب لها غير الجزائريين، برئيسٍ مقعدٍ طاعنٍ في السّن، لأنهم رأوا على عهده الصّلح، ونهاية الحرب، وتوقّف "القتل"!
في مصر يقتل الناسُ كلّ يوم، وماكنة الحياة الكئيبة هناك تدور غير مبالية، والناس إذا ما سألتهم في السياسة، كلّموك عن غلاء الأسعار، ورفع الدعم، ومشاكل المواصلات، وتجاوزوا عن الدم المسفوح كما يتجاوزون الأحجار ومياه الأمطار في الطريق!
في سورية، يقولون: إن النظام وداعش أفضل حالاً وأقوى من الثوّار! وهما، يا للصدفة، يتنافسان أيّهما يقتل أكثر، ثمة علاقة بين القتل والأفضلية في سورية! كلاهما يحرص على القتل، ولا يتردد في فعله، ثم المباهاة به، والثوار الذين يحسبون كثيراً قبل أن يقاتلوا، لا أن يقتلوا كما يفعل الآخرون، يعانون كثيراً!
كانت داعش في سورية مجموعةً صغيرة، لكنها كانت أجرأ على القتل، وأسرع إليه، وكان الناس يتهيّبون الدم، فقاتلت طوائف الثوار واحدةً تلو الأخرى، حتى أضحت سرطاناً يقتل الثورة من الداخل، وكانت تستعمل القتل بكثافة مع أعدائها الأصليين أو الطارئين على حدّ سواء!
وبدماء المئات من المجندين الشيعة في قاعدة سبايكر، والمئات من الثائرين السنة من شباب قبائل الشعيطات، ومعهما الآلاف من الظالمين والمظلومين الذين قتلتهم داعش خطّت المجموعة الصغيرة طريقها نحو التضخّم والبقاء والأثر الكبير!
لست أدعو في هذه المقالة إلى القتل أو القتال حتّى، لكنني أرثي عالمنا وواقعنا، تماماً مثلما قال الراحل قهراً وألماً، براء أشرف: "وأريد لو أبتعد عن القتل، قاتلاً، مقتولاً، أو شاهداً عليه. لو يختفي القتل عموماً، هذه مسألة مفيدة للعالم لو يعلم، تخصه أكثر مما تخصني".
كم هو مأساويّ أن ترى القتلة يعيشون طويلاً، وصاحب العبارة أعلاه يخونه قلبه، ولا يعود يحتمل فيتوقّف!
في تراثنا العربيّ يقولون: القاتل يقتل ولو بعد حين، ويذكرون أن رجلاً من الوجهاء، كان يجلس بين يدي أميرٍ يسامره، فرأى يمامتين تتقافزان، فضحك لمرآهما، فسأله الأمير عمّا أضحكه؟ فقال: كنت في شبابي قاطع طريق، فلقيت رجلاً في الصحراء، فسلبته كلّ ما معه، ثمّ أردتُّ أن أقتله؛ فنظر حوله: فرأى يمامتين تتقافزان، فقال: اشهدا عليه! فلمّا رأيتُ هاتين اليمامتين، تذكّرتُ ذلك الموقف الطريف!
فقال له الأميرُ: فقد شهدتا عليك إذن! وأمر به فقُتل!
هذه القصص مسلّيةٌ حقاً، وتبعثُ البهجة في النفس، لكنّ الواقع والتاريخ يقولان: القتلة كثيراً ما يفوزون!
(فلسطين)
كان عيسى بن موسى الأعوص، أحد أهمّ قادة المنصور، وصل بجيشه إلى "باخمرا" قرب الكوفة، كان جيشه أقلّ عدداً وعدّة من جيش إبراهيم، وإذا ما قدر عليه إبراهيم، كما كان متوقعاً، فإنه لن يكون بينه وبين المنصور شيء، ولدفنت الدولة العباسيّة في مهدها، وقامت دولة ثانية على يد هذا الرجل الفاضل، وتغيّر مجرى التاريخ الذي نعرفه!
وصل جيش عيسى منهكاً، وتداول الثوّار مع قائدهم خطّتهم معه، فقال رجل عمليّ من قادة عسكره: دعنا نبيّتهم، "أي نهجم عليهم في الليل، قبل أن يرتاحوا ويستعدّوا"، فرفض القائد إبراهيم، وبرر ذلك قائلاً: أكرهُ القتل!! فضحك أصحابه حينها، وقالوا له: تكره القتل، وتريدُ الخلافة!!
سرعان ما استعاد جيش عيسى قوّته، ودارت معركة حامية الوطيس في "باخمرا" قتل فيها إبراهيم، على يد الذين كره قتلهم، واحتزّ رأسه، وحمل إلى المنصور، فطوّف به على طبقٍ أبيض، كما ذكر المؤرّخون!
ثمة علاقة تاريخية بين السلطة والقتل، لا أقصد القتال هنا، بل فعل القتل تحديداً، كمّيته وكيفيّته وحجم فظاعته، وتفاصيل الإعلان عنه، كلّها كانت عناصر مهمّة جداً، وذات تأثير كبيرٍ على السلطة، وما أكثر أن يكون إيجابياً للأسف! (التطويف بالرؤوس مثلاً كان سنّة سلطويّة مؤكّدة، تستعمل في إعلان الظفر والنصر واستتباب الأمر)!
في حماه، ثار الناس على نظام حافظ الأسد، فقتلهم قتلاً لم تعرفهُ المدينة قبل ولا بعد، فلم يفكّر أحد بالثورة على نظامه، حتى ذهب جيل وحلّ جيل!
صدّام حُسين كذلك كثير القتل، لأعدائه، ومعارضيه حتى داخل حزبه ونظامه، ولم يزد ذلك القتل حكمه إلا متانة وقوّة، ولم يزحزح عن كرسيّه إلا باحتلال أجنبيّ، كما قال: لولا الأميركان ما قدرتُم عليّ!
في الحرب الأهلية الجزائرية، المسماة "العشرية السوداء"، قتل مئات آلاف الناس، وتعلّم الجزائريون جيداً طريق إيثار السلامة، وتشبّثوا، قوّة تعجّب لها غير الجزائريين، برئيسٍ مقعدٍ طاعنٍ في السّن، لأنهم رأوا على عهده الصّلح، ونهاية الحرب، وتوقّف "القتل"!
في مصر يقتل الناسُ كلّ يوم، وماكنة الحياة الكئيبة هناك تدور غير مبالية، والناس إذا ما سألتهم في السياسة، كلّموك عن غلاء الأسعار، ورفع الدعم، ومشاكل المواصلات، وتجاوزوا عن الدم المسفوح كما يتجاوزون الأحجار ومياه الأمطار في الطريق!
في سورية، يقولون: إن النظام وداعش أفضل حالاً وأقوى من الثوّار! وهما، يا للصدفة، يتنافسان أيّهما يقتل أكثر، ثمة علاقة بين القتل والأفضلية في سورية! كلاهما يحرص على القتل، ولا يتردد في فعله، ثم المباهاة به، والثوار الذين يحسبون كثيراً قبل أن يقاتلوا، لا أن يقتلوا كما يفعل الآخرون، يعانون كثيراً!
كانت داعش في سورية مجموعةً صغيرة، لكنها كانت أجرأ على القتل، وأسرع إليه، وكان الناس يتهيّبون الدم، فقاتلت طوائف الثوار واحدةً تلو الأخرى، حتى أضحت سرطاناً يقتل الثورة من الداخل، وكانت تستعمل القتل بكثافة مع أعدائها الأصليين أو الطارئين على حدّ سواء!
وبدماء المئات من المجندين الشيعة في قاعدة سبايكر، والمئات من الثائرين السنة من شباب قبائل الشعيطات، ومعهما الآلاف من الظالمين والمظلومين الذين قتلتهم داعش خطّت المجموعة الصغيرة طريقها نحو التضخّم والبقاء والأثر الكبير!
لست أدعو في هذه المقالة إلى القتل أو القتال حتّى، لكنني أرثي عالمنا وواقعنا، تماماً مثلما قال الراحل قهراً وألماً، براء أشرف: "وأريد لو أبتعد عن القتل، قاتلاً، مقتولاً، أو شاهداً عليه. لو يختفي القتل عموماً، هذه مسألة مفيدة للعالم لو يعلم، تخصه أكثر مما تخصني".
كم هو مأساويّ أن ترى القتلة يعيشون طويلاً، وصاحب العبارة أعلاه يخونه قلبه، ولا يعود يحتمل فيتوقّف!
في تراثنا العربيّ يقولون: القاتل يقتل ولو بعد حين، ويذكرون أن رجلاً من الوجهاء، كان يجلس بين يدي أميرٍ يسامره، فرأى يمامتين تتقافزان، فضحك لمرآهما، فسأله الأمير عمّا أضحكه؟ فقال: كنت في شبابي قاطع طريق، فلقيت رجلاً في الصحراء، فسلبته كلّ ما معه، ثمّ أردتُّ أن أقتله؛ فنظر حوله: فرأى يمامتين تتقافزان، فقال: اشهدا عليه! فلمّا رأيتُ هاتين اليمامتين، تذكّرتُ ذلك الموقف الطريف!
فقال له الأميرُ: فقد شهدتا عليك إذن! وأمر به فقُتل!
هذه القصص مسلّيةٌ حقاً، وتبعثُ البهجة في النفس، لكنّ الواقع والتاريخ يقولان: القتلة كثيراً ما يفوزون!
(فلسطين)