في هذا الزمن الذي استولت فيه "البيانات العملاقة" (Big data) على كامل فضاء الوعي الإنساني وأعادت صياغته، أما يزال مِن الممكن أن تكون للفرد حرية تحديد الكتب الجيّدة والوصول إليها؟ ماذا يستطيع أن يختار القارئ وسط دفق خرافي لأعداد لانهائية من العناوين والكتب؟ كيف يستطيع اختيار هذا الكتاب أو ذاك وقد صارت الميديا تختار له، كما تختار لنا أي شيء؛ من رئيس الجمهورية إلى آلة الغسيل؟
بتعبير أوضح، وقع الإنسان في شراك الميديا. صار التسويق يحاصرنا بأساليبه من إحصاءات وتحديد "الأكثر مبيعاً". لذلك قد تجد كُتّاباً لا قيمة لهم، لكنهم يطبعون ملايين النسخ من كتبهم، لعلّ باولو كويلو أحسن مثال على ذلك، في الوقت الذي صار فيه عسيراً، إن لم نقل مستحيلاً، الوصول إلى تلك الكتب التي تحدّث عنها تريستان تزارا، وهو صديقٌ لهنري ميللر، ومثله خرّيج شوارع وبارات ومكتبات.
تزارا كاتبٌ صاغته التجربة الحياتية التي هي نبع كل إبداع. هل من الممكن اليوم اكتشاف الكتب التي تُغيّرنا وتتغلغل في أعماقنا وتعيد صياغتنا؟ يقول، في نصّ من نصوصه، وهو يتحدّث بطبيعة الحال عن قراءاته وبعد تعداد بعض العناوين: "هذه الكتب حوّرت كياني وشكّلت مزاجي ورؤيتي للحياة وموقفي من النساء والمجتمع ومن القوانين والأخلاق والسلطة. لقد حدّدت هذه الكتب إيقاع حياتي".
أمّا ميللر نفسه، فقد وضع مجلّداً كاملاً بعنوان "الكتب في حياتي"، عرض فيه كلّ الكتب والمؤلّفين الذين نسجوا حياته وحوّروا وعيه بذاته وبالعالم. ونراه يضع، في آخر هذا الكتاب، ثبتاً بأسماء المؤلّفين الذين ينوي قراءتهم. وضمن القائمة، نلمح اسم الشاعر الفلسطيني توفيق صايغ.
كتبٌ كان قد نصحه من قرأها من أصدقائه بمطالعتها وليست خوَرزميات "البيغ داتا"، أو كتباً سمع بها عن طريق الصحافة الأدبية يوم كانت الصحافة الأدبية بمنأى عن ضغوط دور النشر ودعايتها؛ يوم كانت هذه الصحافة تعتمد مثقّفين وأدباء كباراً ما تزال لديهم بقايا حسّ المقدَّس إزاء الكلمة، ذاك الحس المتحدّر من العصور القديمة، أو حافظوا، في أقل تقدير، على الإحساس بالمسؤولية إزاء الكلمة المكتوبة، قبل أن تُبتذَل كما هو الشأن في كثير ممّا يُكتب ويصدُر اليوم ويسوّقه لنا موقع "أمازون".
في حين، كان أندريه جيد في فرنسا، في العقد الثاني من القرن العشرين، هو من يشرف على اختيار المخطوطات التي تُنشَر في "دار غاليمار"، ولولاه لما نشر سان جون بيرس قصائده الأولى. وفي الناحية الأخرى، وراء بحر المانش، كان ت. س. إليوت هو الذي يُشرف على اختيار النصوص لنشرها في "دار فابر أند فابر".