الفينيقيون.. "حضارة" صامتة وسجلات مندثرة
وللعلم، فإن الجنة سومرية في الأصل، وتقع في دلمون. وكلمة عدن، ومنها عدنان، تعني الاستقرار في الأرض، بينما كلمة قحطان، ومنها القحط، فتعني الترحل. وفي لبنان كانوا، وربما مازالوا، يدّرسون الأساطير والخرافات، لا بصفة كونها أساطير وخرافات، بل باعتبارها وقائع حدثت بالفعل، مثل قصة أليسار إبنة ملك صور التي احتالت على الأفارقة في تونس القديمة، وطلبت مساحة جلد بقرة، لتقيم عليها مسكناً لها ولأتباعها، واعتبرها الأفارقة مخبولةً. وعندما وافقوا على طلبها، عمدت إلى تحويل الجلد خيوطاً طويلة، وسيّجت المساحة بهذه الخيوط، وبنت عليها مدينة قرطاجة في تونس. وعلى هذا النحو درسنا كيف مسخ زيوس نفسه ثوراً، واختطف أوروبا أخت قدموس إلى جزيرة كريت، وكيف انتزع قدموس أسنان تنين ونثرها في الأرض، فإذا بها تتحوّل إلى أربعة وعشرين مقاتلاً، افتتح قدموس بهم أرض طيبة في اليونان (لنلاحظ كيف أن زوجة زيوس تدعى هيرا التي يُطابق لفظها كلمة غار حراء. وكذلك مدينة يثرب التي كانت تسمى طيبة، أي التي لا يدخلها الطاعون – وطيبة هي المدينة التي بناها قدموس، ثم صارت مدينة أوديب التي حل بها الطاعون). من الروايات غير الموثقة أن الفينيقيين برعوا في استخراج اللون الأرجواني من أصداف الموريكس. وجميع هذه الخرافات تسللت إلى أدمغة التلاميذ على يدي فؤاد أفرام البستاني بالدرجة الأولى، وعلى يدي أسد رستم، حين صمت عن إدراجها في المناهج التعليمية. وكثيراً ما كنتُ، في بداية الصبا، أجوب الشواطئ اللبنانية، بحثاً عن أصداف الموريكس التي لوثت "أبواز" كلاب الفينيقيين التي ساهمت، بهذا المعنى، في اكتشاف ذلك الصباغ الأحمر العجيب، فما وجدت واحدةً منها.
منذ فترة، عادت حكاية وصول الفينيقيين إلى البرازيل إلى التداول، واستُعيد الكلام على "نقش بارابيا" الذي اكتُشف في سنة 1872، والمؤلف من ثمانية سطور، وفيه أن خمسة عشر
شخصاً من أهالي صيدون انطلقوا من عصيون جابر بعشر سفن، وأمضوا سنتين في البحر، حتى وصلوا إلى العالم الجديد (ترى كم حملوا معهم من الطعام والماء؟). ومع أن العلماء، كونست شلوتمان وهانس فريدريك وفرانك كروس، أكدوا جميعهم أن النقش مزيّف، إلا أن هذه القصة لا تنفكّ تتجدّد بين الحقبة والأخرى (أنظر: الفينيقيون وأميركا: فصول شغلت العالم، ترجمة: عبد الله الحلو، بيروت: دار فكر للأبحاث، 1991). ومن الحكايات التي عفَّ عليها الدهر، وأكل وشرب ثم بال، أن الإغريق هم الذين أطلقوا على التجار الآتين بالسفن من شواطئ سورية اسم "الرجال الحمر" أو الفينيقيين. وقد ردّد المؤرخان، فيليب حتي وجواد بولس، هذا الكلام الذي بات متقادماً. فلو أراد الإغريق أن يصفوا أولئك بأنهم حمر البشرة لاستعملوا كلمة purple، وليس فونيكس أو موريكس. وليس صحيحاً على الإطلاق أن الإغريق هم أول من أطلق على هؤلاء التجار اسم "الفينيقيين"، لأن سنخونياتن كتب "تاريخ فينيقيا" في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، أي قبل ظهور الإغريق بنحو 700 سنة. والراجح أن كلمة "فينيقي" مشتقةٌ من الجذر "فَنَقَ" التي إما أن تعود إلى المكان أو إلى الجد الأعلى؛ فالناس كانوا ينتسبون إما إلى المكان، أو إلى جدّهم الأعلى. وعلى هذا الأساس، فالفينيقيون هم سكان فينيقيا أو بلاد النخل، لأن فينيقيا، بحسب طنوس الشدياق، هي بلاد النخل (أنظر: طنوس الشدياق، أخبار الأعيان في جبل لبنان، بيروت: منشورات الجامعة اللبنانية، 1970). ومصدر حكاية طائر الفينيق أو الفنك هو الجزيرة العربية، وهو يدعى هناك طائر البلح، ويُجمع على بُلحان ، ومنها كلمة pelican. وفي المصادر الحكائية العربية أن أول مَن لقّب نفسه بكلمة "فونيق" هو "قنا" شقيق أوزيريس (العُزير). ولعل كلمة "قاني"، أي الأحمر، جاءت من لفظة "قنا" السريانية. وقرية "فينيقا" ما زالت قائمة في غرب شبه الجزيرة العربية (راجع: أحمد داود، تاريخ سوريا الحضاري القديم، دمشق: د.ن.، 1994). ثم إن فونيكس، أو فونيقوس، هو أخو قدموس نفسه.
التوراة ليست تاريخاً
من القصص المتداولة جداً في الكتابات عن تاريخ لبنان القديم، قصة حيرام ملك صور الذي طلب منه سليمان، أحد ملوك العبرانيين، إرسال خشب أرز وسرو وصندل (سفر أخبار الأيام – الثاني، 8:2). والحقيقة أن الصندل لم يوجد قط في البقعة التي صار اسمها لبنان حديثاً، لأن هذا النوع لا ينمو في لبنان المتوسطي، بل يحتاج مناخاً مدارياً مثل المناخ في اليمن والهند. وفي "أخبار الملوك الثاني" ورد ما يلي: أرسل حيرام إلى سليمان إلى إيلات (خليج العقبة) سفناً وملاحين عارفين بالبحر. والسؤال البدهي هنا: كيف أرسل حيرام سفناً من صور على الشاطئ السوري، إلى البحر الأحمر، ولم تكن قناة السويس قد شُقت بعدُ؟ والجواب، ببساطة، أن صور لم تكن على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، بل في عُمان. وقد وردت كلمة "لبنان" سبعين مرة في التوراة بصيغة "لبنون" أي اللُبان، وهو صمغ عطر، أو ربما هو البخور نفسه. وكانت العبارة التالية تتردد في سفر نشيد الانشاد التوراتي: "إذهب إلى جبل المر إلى تل اللُبان".
والمؤكّد أن أي نوع من شجر اللُبان لم يوجد في لبنان القديم على الإطلاق. أما لبنان اليمني
فهو المنطقة الوحيدة التي يُنتج فيها المر واللُبان والأقاصيا والوَرْس" (أنظر: لطيف إلياس لطيف، لبنان التوراتي في اليمن، صيدا: دار الجنوب للطباعة). واللافت أن اسم "لبنان"، أو الأرز، لم يرد حتى مرة واحدة في الأناجيل. وفي سفر أشعيا (6:60) وسفر إرميا (20:6) تأكيد على أن مصدر اللُبان الذي كان يأتي إلى أورشليم هو من "شبأ"، أي من بلاد سبأ، أو من شبوة الموجودة حتى اليوم في حضرموت (أنظر: كمال الصليبي، التوراة جاءت من جزيرة العرب، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1985).
وتحدثت أسفار أشعيا وإرميا وحزقيال عن الخراب الفظيع الذي حل بصور، وعن حرقها وتدمير أسوارها ومنازلها وقتل سكانها. لكن، من المعروف أن صور اللبنانية حاصرتها جيوش نبوخذ نصر ثلاثة عشر عاماً، من دون أن تقتحمها. وفي نهاية المطاف، رُفع الحصار عنها لقاء جزيةٍ معينةٍ واستئسار بعض أعيانها رهائن. أما صور العُمانية فقد زالت حقاً وصارت خَرِبة. وفي سفر الملوك الثاني (10-7:6) ورد ما يلي: "أرسل حيرام إلى سليمان يقول: أنا أُتم كل مرضاتك في خشب الأرز وخشب السرو (...) وأنت تتم كل مرضاتي بإعطائي طعاماً لبيتي". ما هذا التوسّل؟ وما السبب في أن يطلب ملك صور الفينيقي من سليمان أن يبعث إليه بطعامٍ لبيته مقابل عمل يديه على طريقة عضاريط العرب؟ والعضروط بالعربية هو الذي لا يملك شيئًا غير قوة يديه التي يوظفهما لقاء طعام بطنه. ويذكر الملك الأشوري سنحاريب في سجلاته ما يلي: "قمتُ بحملةٍ ضد بعلو ملك صور الذي اعتمد على صداقة تاركد ملك كوش (...)، فبنيتُ معاقل ضده، ومنعتُ عنه الغذاء والماء". إذاً، ملك صور يحميه ملك إثيوبيا (كوش) من بطش سنحاريب. وهذا برهان إضافي عن أن صور كانت قريبةً من إثيوبيا، أي أنها كانت في عُمان مثلاً.
في رسالة رب عدّي "أمير جبيل" إلى فرعون مصر أمنحوتب الرابع (أخناتون) التي اكتُشفت في تل العمارنة، ورد التالي: "إن الملك كان يُرسل إلى أجدادي نقوداً وغير ذلك مما كانوا يحتاجون إليه، وكان يسيِّر لهم جنوداً. أما أنا فأرسلت إلى سيدي الملك ساعياً ليساعدني في بعثة من الجند فلم يرسل إليّ أحداً". وفي إحدى رسائل "ملك فينيقي" إلى أحد الفراعنة، كما ظهرت في رسائل تل العمارنة، استجداءً لا يليق بالملوك، فقد جاء فيها: "إلى سيدي وإلهي ونوري، إلى شمس السماء ونور الأرض. أنا عبدك وترابُ قدميك وسائسُ خيلك. أخرُّ على قدمي مولاي سبع مرات، وأنطرح سبعاً على صدري وظهري. ما أنا غير كلبٍ يطأه مولاي تحت قدميه" (أنظر: أمين الريحاني، قلب لبنان، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980). والمؤكّد أن "ملوك" المدن الفينيقية لم يكونوا ملوكاً أو أمراء، بل كانت لقب الواحد منهم "خزانو" أي والي، أو متولي الضرائب، تماماً مثل أمراء لبنان المعنيين والشهابيين وغيرهم؛ فهؤلاء لم يكونوا أمراء، بل ملتزمي ضرائب برتبة "أمير الاي"، أي أمير اللواء. وأمير اللواء صارت في ما بعد الأمير أو المير.
من خرافات الفينيقيين المسطورة في الكتب الأيديولوجية أنهم وصلوا إلى ترشيش في إسبانيا، وأسّسوا مستعمرة أغادير، وجمعوا الذهب والفضة من مناجم "هويلفا" في عمق بلاد ترشيش، بعد أعمدة هرقل (مضيق جبل طارق). ومع أن الدراسات الأكثر علميةً تستخف بمثل هذه التفاسير، إلا أن بعضهم ما برح يعتقد أن ترشيش كانت موجودة في سردينيا على الأقل. وقد وردت ترشيش في قصة يونس (يونان) الذي قذفه الحوت من بطنه بعد ابتلاعه بثلاثة أيام. إذاً، في الطريق البحري إلى ترشيش في إسبانيا ابتلع حوتٌ النبيَّ يونان. والمعروف أن البحر المتوسط لا حيتان فيه قديماً وحديثاً. ويجب، في هذه الحال، أن نفتش عن مكان آخر لهذه الحكاية الخرافية.
تقول الرواية المتداولة إن الإله يهوه أمر يونان بن أميتاي بالذهاب إلى نينوى، ليردع أهلها عن
الشرور التي يرتكبونها، لكن يونان نزل إلى يافا، هرباً من وجه يهوه، وأقلته سفينة إلى ترشيش التي تبعد مسافة ثلاثة أيام. وقد واجهت السفينة عاصفة، فسقط الركاب في البحر، وابتلع أحد الحيتان يونان، ليتقيأه بعد ثلاثة أيام. وجرّاء نجاته، قَبِل التكليف الإلهي شكراناً وطاعة، وسار إلى نينوى، ودخلها بعد مسيرة يوم واحد. وبتفكيك هذه الخلاصة، يتبين أن الكلام على سفر يونان من يافا إلى ترشيش في إسبانيا، وابتلاع الحوت له في البحر غير ممكن، لانتفاء وجود الحيتان في ذلك البحر، ثم إن المسافة بين يافا ونينوى أكثر بكثير من مسيرة ثلاثة أيام (ربما تحتاج إلى نحو خمسين يوماً على الأقل). لذلك، يرجِّح الدارسون، وفي طليعتهم كمال الصليبي، أن تكون ترشيش هي بلدة "شرشيت" في ظُفار بعُمان، وأن تكون نينوى هي نزوى العُمانية، لا نينوى العراقية، وأن "أوفير" التي كانت مقصد سفن ترشيش المذكورة في سفر حزقيال هي ظُفار بعينها، وأن مناجم "هويلفا" Huelva "داخل عمق ترشيش" إنما هي إلوا العُمانية أو ليوا الموجودة اليوم في الإمارات العربية المتحدة، وأن جت حافر، موطن يونان، هي حافر الموجودة اليوم غرب مدينة مسقط العُمانية (أنظر: كمال الصليبي، خفايا التوراة وأسرار شعب اسرائيل، بيروت: دار الساقي، 1988).
حضارة بلا شواهد
حفّزني كتاب الصديق الدكتور فردريك معتوق "سوسيولوجيا الحضارة الكنعانية – الفينيقية" (بيروت: دار المعارف، 2014) على الخوض في هذا اليم المتلاطم، وعلى ولوج عالمٍ شائكٍ وشائقٍ، حيث اليقين فيه قليل جداً، حتى لأصحاب الاختصاص، كالتاريخ والآثار والأنثروبولوجيا. وكان الدكتور معتوق اكتشف مغارةً في قرية سرعل الواقعة على سفوح قاديشا في لبنان الشمالي، يعود تاريخها إلى 1200 عام قبل الميلاد، أي إلى العهد الفينيقي الأول. وقاده هذا الاكتشاف إلى الاستنتاج أن الحضارة الكنعانية لم تنتشر، كما هو شائع، على سواحل جبل لبنان فحسب، بل توغلت أيضاً في الجبال، حتى ارتفاع 1200 متر، وأن هذه الحضارة لم تكن بحريةً، بل كانت، إلى ذلك، حضارة ريفية زراعية (ص12). والحقيقة أن تاريخ الفينيقيين، وهو تاريخ متناثر، لم يُعرف من خلال آثارهم أو سجلاتهم، بل من سجلات فراعنة مصر في تل العمارنة، ومن مدونات سرجون الأكادي. وهو تاريخ متقطع غير مترابط الحلقات، والمسافة الزمنية بين الحلقة والحلقة لا تقل عن أربعمئة سنة، الأمر الذي لا يُتيح للمؤرخين وضع تاريخٍ شامل لهؤلاء التجار. والحضارة الفينيفية، إذا جاز لنا استعمال كلمة "حضارة"، هي حضارة تجار، أي مجرّد مراكب ودفاتر محاسبية وعقود ورسائل، وهي مواد زائلة، لم يبق منها شيء اليوم؛ فالورق يتلف والحجر يبقى، غير أن الفينيقيين لم يتركوا نقوشاً مهمة (عدا معبد أشمون في صيدا، وهو أشوري الطراز، وبعض أرصفة الموانئ المتواضعة). وجل ما تركوه هو بعض الفخاريات والزجاجيات والحلى والنواويس والتماثيل وبعض البيوت البسيطة. وحتى المصنوعات والمنتوجات الزراعية والحرفية التي كان الفينيقيون يتاجرون بها كانت تنتج، في معظمها، في دمشق وحمص وأفاميا ومنبج (هيرابوليس) واللاذقية وأوغاريت وعمريت وماري وبابل وأنطاكيا وإيبلا ونينوى، وهذه كلها أدواتٌ صامتة.
أما الأدوات الناطقة فهي الآداب والعلوم والفنون والدين والفلسفة وأوابد المدن ومعمارها، وهي لا تنتسب إلى الفينيقيين قط. وحتى آثار قرطاجة في تونس اليوم هي بقايا ما بناه الرومان، وليس ما شاده الفينيقيون بالأمس، لأن قرطاجة الفينيقية حرقها القائد العسكري سيبيون في سنة 146 ق.م، وهي، في أي حال، لم تكن إلا مستودعات للبضائع ومنازل للتجار والعاملين فيها. وكذلك مدينة جبيل التي يحلو للمؤرخين الأيديولوجيين أن ينسبوها إلى الفينيقيين، فهي بُنيت في الأساس، في أوائل القرن الثلاثين قبل الميلاد، ولم يبقَ منها شيء إلا القليل، بينما لم يتجاوز ارتفاع سور المدينة التي بُنيت لاحقاً الأربعة أمتار، وهو سياج مبني بالحجارة الصغيرة غير المنحوتة، مثله مثل أي حائط بيت. أما الجزء العلوي من السور المبني بالحجارة المنحوتة، فقد أُضيف إلى السور الأساسي في عهد الرومان (أنظر: أمين الريحاني، قلب لبنان، مصدر سبق ذكره). ثم إن قلعة جبيل هي صليبية لا فينيقية، وجبيل نفسها الواقعة ضمن السور قرية صغيرة جداً، وليس فيها أيٌّ من الآثار الفخمة الضخمة. وهيكل الإله رشف (أي معبد إله الشفاء) يساوي حجمه حجم كنيسة صغيرة في جبل لبنان. وفي أي حال، لا يوجد أي برهان علمي متين، أو أثري، عن أن جبيل هي أول وأقدم مدينة في التاريخ، كما يروّج أصحاب
المنازع الأيديولوجية. واسم جبيل عربي، وهي لم تُدعَ "بيبلوس" إلا لاحقاً (راجع: فرانسوا حرفوش، صحيفة الأنوار اللبنانية، 26/2/1999). ومهما يكن الأمر، فإن اسم جبيل بالآرامية هو غوبلا (Gubla) مثل جبلة، واسم أوغاريت هو Gublo، وهي تقع في النطاق الحضاري لمملكة أوغاريت (رأس شمرا)، والأبجدية هي أبجدية أوغاريت التي تطورت من المسمارية السومرية التي ظهرت في سنة 3600 ق.م، وامتدت إلى مملكة ماري (موقع تل الحريري اليوم)، ثم إلى مملكة إيبلا القريبة من معرّة النعمان، فتل مرديخ في سوريا. وكل ما فعله قدموس الذي يُعتقد أنه نكديموس، ملك أوغاريت الذي غادرها بعد الزلزال الذي خرّب مملكته في سنة 1365 ق.م، هو أنه نقل مع رجال بلاطه هذه الأبجدية إلى بلاد اليونان. واستطراداً، لم يترك الفينيقيون أي أثرٍ موسيقي، في حين وُجدت في أوغاريت أقدم نوطة موسيقية في التاريخ، علاوة على أقدم الملاحم والأساطير (بعد الملاحم السومرية بالطبع)، وأكمل الأبجديات بعد المسمارية السومرية ثم الهيروغليفية ثم الألفبائية السينائية، لتكتمل في رأس شمرا في سنة 1600 ق.م.
لا يعرف المؤرخون عن الفينيقيين أي ولع بالمسرح أو الأدب أو الفلسفة أو الدين في ما عدا عبادة البعل، وهي عبادة شائعة جداً في الشرق الأدنى القديم، وصلت إلى مكة في هيئة "هُبل". ولم نعثر على فيلسوف فينيقي واحد ذي مكانةٍ في تاريخ الفلسفة القديمة. أما بعض الفلاسفة والشعراء والمؤرخين المتحدرين من الساحل السوري، والذين لمعوا في بلاد الإغريق أمثال فيثاغورس (صيدا) وأدريانو (صور) ومينياندر (اللاذقية) وفرفوريس (صور) وكاليماخو (اللاذقية)، علاوة على زينون مؤسس الرواقية (قبرص) وهيرودوت (كيليكيا) وانتيباتر (منبج = هيرابوليس)، فضلاً عن أوفيد (صاحب التحولات) وهوميروس وسافو، فهؤلاء لمعوا في نطاق الحضارة الإغريقية، وكانوا جزءاً منها. ثم إن هذه الحضارة التي ظهرت في إقليم اليونان بمدائنه الثلاث: أثينا وإسبارطة وأرغوس ليس حضارة يونانية تماماً، بل هي مجموع العلوم والثقافات والآداب التي كُتبت باللغة اليونانية. أما أصولهم الفينيقية (السورية) فكانت بعيدةً أحياناً وباهتة. وفوق ذلك، فإن آلهة الفينيقيين مثل ملكارت (صور) وأشمون (صيدا) وعشتار (جبيل)، هي آلهة محلية؛ فملكارت يعني ملك القرية، والبعل وعشتار وأدونيس ورشف كلها صفات لإله محلي واحد، وليست آلهةً متعددة كأن نقول: الرحمن الرحيم العلي العظيم، فكلها صفات لإلهٍ واحد، هو بعلسامين (رب السماوات) أو إيل (الإله) أو عليون (الأعلى). أما الأثر الأدبي الفينيقي الوحيد فهو "رحلة حنون القرطاجني"، علاوة على تاريخ سنخونياتن الذي عاش قبل حرب طروادة (القرن 13 قبل الميلاد)، ووصلتنا بعض أجزائه من خلال فيلون الجبيلي الذي جاء بعده بألف عام.
اللافت أن فردريك معتوق لم يستعمل إلا أربعة مراجع عربية فقط في كتابه "سوسيولوجيا الحضارة الكنعانية- الفينيقية"، هي "أخبار أوغاريتية" (قاسم الشواف) و"أناشيد البعل" (حسني حداد وسليم مجاعص) و"جذور المسيحية في لبنان" (أنطوان الخوري حرب) وكتاب غريب العنوان هو "المطروف والمدرس والباقوف" (محب شانة -ساز)، ولم يلتفت إلى عشرات المراجع والبحوث التي غيّرت، إلى غير رجعة، التاريخ القديم الذي كان يستند على التوراة في السرد والتحقيب. ومن أعلام هؤلاء كمال الصليبي وعصام الدين حفني ناصف وأحمد سوسة وحمد الجاسر، وحتى فراس السواح وأحمد داود، علاوة على رُقَم أوغاريت وألواح سومر ووثائق مملكة ماري ومملكة إيبلا وحضارة دلمون وتل مرديخ، وكذلك المصادر المأنوسة، مثل تاريخ هيرودوت ومعاجم الأساطير والملاحم اليونانية والمصرية والعراقية والسورية، وكتاب "الإكليل" للهمداني عن تاريخ اليمن وعشائره. أما استخدامه مراجع بالفرنسية والانكليزية فلم يسد هذه الفجوة، لأن بعضها لا يمت بصلة مباشرة إلى موضوع الفينيقيين، مثل كتاب "السياسة" لأرسطو. ولسوء حظ الباحث في هذا الميدان هو اعتماد الكاتب على أحد مؤلفات حارث البستاني "الكنعانيون الفينيقيون: شعوب وأرض" (بالفرنسية). والاستشهاد بحارث البستاني يُضعف البحث، لأن حسان سركيس اتهمه بانتحال كتاباته التي ينشرها في المجلات الأكاديمية، ومنها سرقة أربعين ألف كلمة منه نَشَرها في كتاب بالفرنسية (دار آرتو)، فرفع سركيس دعوى قضائية ضده وأرغمه، من خلال الحكم القضائي، على دفع تعويض مالي، وتضمين بداية الكتاب المنحول إيضاحاً يفصّل فيه ما نقله عن سركيس. وللعلم، فإن أصل عائلة البستاني من جبلة في سورية، وقد هبط أفرادها قرية بقرقاشا، ثم جاءوا إلى دير القمر والدبية والدلهمية في الشوف، وكان منهم أعلام كبار أمثال بطرس البستاني.
من هم الفينيقيون حقاً؟
الأقوى أن موطن الفينيقيين هو مدينة صور العُمانية الموجودة بقاياها حتى اليوم إلى جانب
أختها صيدا في عُمان. وهؤلاء انتقلوا إلى "تير" Tyre على الساحل السوري في نحو سنة 2751 ق.م. بُعيد زلزال أصاب مدينتهم. وشيئاً فشيئاً، تحولت "تير" إلى صور، ومازالت بقايا الاسم موجودة في أسماء بعض القرى اللبنانية والفلسطينية المتجاورة، مثل تربيخا وترشيحا وترقوميا وطير دبا وطير فلسيه والطيرة. و"تير" تعني الصياد، ومنها "بعل تير" (إله الصيد) والتيرو (حقل الصيد)، علاوة على صيدا وصيدنايا. والفينيقيون الأوائل كانوا صيادين، وتحولوا بالتدريج إلى التجارة البحرية. إذاً، صور العُمانية هي الأصل، وصور الفينيقية على الساحل اللبناني اليوم هي ابنة صور العمانية. أما صور الواردة في التوراة فهي عشيرة صور المديانية، وحيرام هو رئيس عشيرة الصوريين في عُمان، وليس ملك صور (اللبنانية) الذي كان يُرسل إلى سليمان خشب الأرز والسرو والصندل.
أما المستعمرات الفينيقية على شواطئ البحر المتوسط فهي محطات تجارية ومستودعات بضائع، وليست مدناً حضارية، كما يتراءى للأذهان، وغايتها محصورة في بيع البضائع المحمولة من الشرق، وتخزين البضائع لمصلحة التجار، وتقديم الخدمات للسفن التجارية. وكان الفينيقي يرسو بمركبه الصغير عند شاطئ إحدى الجُزر، ويبدأ بعرض بضاعته على رمال الشاطئ. ويجيء الناس للفرجة أو للشراء، ويطوفون بالبضائع، فمن شاء أن يشتري يضع إلى جانب السلعة التي يريدها قطعةً من الذهب أو الفضة، أو غير ذلك من وسائل المقايضة، ويعود إلى الوراء. فإذا وجد الفينيقي الثمن ملائماً له أخذه، وإذا وجده غير ملائم له تركه. وهنا يعود الشاري إلى التقدم، فإذا وجد أن الثمن قد قبله الفينيقي أخذ بضاعته ومضى، ومَن وجد أن الثمن غير مقبول، فإما أن يزيد في السعر أو يأخذ نقوده ويمضي. وهكذا تدور العملية من دون كلام. وعند غروب الشمس، يعيد الفينيقي إلى مركبه ما بقي من البضائع ويبحر إلى جزيرة أخرى.
لكن، ما كانت عليه أحجام تلك المراكب التي كانت تمارس التجارة الصامتة في عرض المتوسط، والتي وصلت، في بعض الروايات، إلى السواحل الغربية لأفريقيا، وأقامت محطات تجارية في ما يُعرف اليوم بالسنغال وسيراليون وغانا (راجع: رحلة حنون القرطاجني في سنة 470 ق.م.). ففي سنة 1982 اكتُشف في عمق البحر مقابل إحدى المدن التركية حطام سفينة شحن فينيقية غرقت في سنة 1200 ق.م. يبلغ طولها 16 متراً (راجع: سوسيولوجيا الحضارة الكنعانية – الفينيقية، ص 165). وفي عام 1999 اكتُشف حطام سفينتين فينيقيتين على مبعدة 45 كلم مقابل عسقلان، طول الواحدة 14 متراً (المصدر السابق، ص 127)، وهذه المراكب الصغيرة التي يراوح طول الواحد منها إذاً بين 14 و 16 متراً كانت تعتمد الإبحار بالمجاذيف والأشرعة، فهي، والحال هذه، مثل قوارب الموت (البَلَم) التي نشاهدها اليوم وهي تزدحم بالهاربين من بلادهم إلى أوروبا، الأمر الذي يجعل رحلة حنون وسفنه تندرجان في ميدان المبالغة الخرافية، فقد سافر حنون، بحسب الروايات القديمة، في رحلةٍ بحرية إلى ما بعد أعمدة هرقل (جبل طارق) لإنشاء ست مدن قرطاجية جديدة، وضمت الرحلة ستين سفينة، نقلت حوالى ثلاثين ألف رجل وامرأة مع مؤنهم وحاجاتهم الضرورية، علاوة على البحارة. وبالحساب البسيط، يتبين أن كل سفينة استوعبت 500 راكب، وهذا من المحال في سفن طول الواحدة منها 14 متراً فقط.
الحضارات لا تقوم على السواحل
المعروف في التاريخ الانساني أن الحضارات الكبرى لم تنشأ على سواحل البحار، بل في السهول الخصبة، وعلى ضفاف الأنهار لا عند مصباتها. ولسكان السواحل شأن كبير في التجارة والتبادل البضاعي ونقل منتوجات الحضارات المختلفة، فهم مغامرون ومنفتحون ومرتادون للآفاق، لكن إنتاج القيم الحضارية يحتاج عمراناً مستقراً وامتداداً في الزمن، وهذا الأمر لا يتوافر إلا لمدائن السهول الخصبة، أو الهضاب المحمية بالمرتفعات. لنلاحظ كيف أن الحضارة المصرية القديمة تركّزت على النيل وعند الموقع المطابق لمدينة القاهرة اليوم، لا في الإسكندرية على أهميتها التجارية والثقافية. وحضارة بلاد ما بين النهرين كانت حواضرها نينوى وأور وبابل، ثم بغداد لاحقاً، لا البصرة. وكذلك الحضارة الآرامية وحاضرتاها دمشق وحلب، لا بيروت وصيدا. والحضارة الرومانية نشأت في روما وفي فلورنسا، لا في مدن السواحل مثل نابولي أو جنوى أو فينيسيا. وحضارة الهند قامت حول دلهي التاريخية، لا حول بومباي أو كلكوتا أو مدراس. وفي الصين كانت بيجين قاعدة الحضارة الصينية، ولم يكن لشنغهاي أو نانكينغ هذا الشأن ألبتة. والأمر نفسه ينطبق على الحضارات الأوروبية: باريس هي الحاضرة لا مرسيليا. ولندن هي حاضرة بلاد الانكليز، وليس ليفربول أو برايتون. وكوردوبا وتوليدو وإشبيلية هي المدن الحواضر في شبه الجزيرة الإيبيرية، لا برشلونة أو فلنسيا. وكذلك موسكو لا أوديسا. وهكذا هي الحال في شبه جزيرة العرب: صنعاء لا عدن، ومكة لا جدة. وبهذا المعنى، لا أعتقد أن الفينيقيين أسسوا حضارة قائمة بذاتها، بل كانوا جزءاً من نطاق حضاري واسع، شمل الساحل السوري كله، بين عسقلان والإسكندرون، ومشرقه حتى نينوى وأور وبابل.