الفلاح محسن

31 أكتوبر 2019
+ الخط -
في مطلع الشباب عشنا مرحلة مهمة من حياتنا بكل قسوتها، مع ما رافقها من صور كئيبة ومحزنة، شكلت جزءاً مهماً منها لا سيما أنها تُعد العمود الأساس لها، وما تزال تأخذ مساراً رئيساً في الحياة التي نعيش كما هو مرسوم لها، بلا قيود أو حواجز.

العديد من الصور سبق أن رسمها من قبلنا كثيرون وما زالوا يُمسكون بالحبل ذاته، وكل يحاول جرّه إلى جهته وبقوّة، لأنهم يدركون تماماً مدى الرغبة التي تدفع بالفلاحين، أصحاب الأرض الفعليين، بصورة خاصة، إلى خوض تجارب فعلية ومتفرّدة في الحياة على الرغم من الصعاب التي كانت تقف حجر عثرة في طريق نجاحهم. وقد اضطر الكثير من الشباب من أبناء الريف، إلى هجر أرضه وتركها عُرضةً للخراب والدمار، وحده محسن العلي ابن الواحد والعشرين ربيعاً فضّل البقاء فيها وإيلاءها أهميةً كبيرةً، وهي التي تعد ذات إنتاجية وفيرة في زراعة محصول القطن الذي يُقبل الفلاحون على زراعته وبرغبة شديدة، نتيجة قيام الحكومة برفع سعر الطن الواحد منه بصورةٍ دورية بما يُرضي المزارعين والفلاحين قبل الإعلان عن بدء موسم القطاف تشجيعاً لهم على الإقدام على زراعته، لأنه يشكل دخلاً اقتصادياً مهماً جداً لأي بلد كان، وللفلاحين بصورةٍ خاصة.

كان محسن الابن الثالث لأحمد العلي الذي ترك صفوفه الدراسية الأولى واتجه إلى الاهتمام بالزراعة التي يُحبها بشغف، ويوليها أهميةً كبيرة خاصة مع توافر مياه الري بواسطة الأقنية البيتونية التي ساهمت الحكومة بإنشائها لأجل توفيرها لآلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية التي تم استصلاحها، وهذا ما دفع الكثير من الفلاحين أصحاب الحيازات الكبيرة من الأراضي للاهتمام بها وإيلائها جانباً مهماً في حياتهم العملية لأنها تُعد المورد الأساس لهم ولأسرهم، بعد تربية الأغنام التي تتسابق أعداد كبيرة من المنتجين على الاهتمام بها.


كان محسن يملك مع أسرته أكثر من أربعمائة دُونم من الأراضي الزراعية الخصبة التي تروى بالراحة من مياه نهر الفرات الذي بالكاد يبعد عن أرضه مئات الأمتار، وكان مجداً في عمله مثابراً على الاهتمام بأرضه التي تدرّ إنتاجاً وفيراً، واستثمار هذا الجهد في خدمة الأرض التي أولاها اهتماماً مبالغاً به نتيجة ولعه بها، وحبّه للأرض التي استطاع أن يجني كميات وفيرة منها لفتت أنظار بقية الفلاحين الذين يجاورونه.

فرح محسن جداً بغلة الأرض بعد مرور عام كامل من الجهد والمتابعة، وملاحقته أصحاب الآليات الزراعية الذين كان يحاول الاستعانة بهم مقابل مبلغ من المال لأجل تخفيف العبء عنه في فلاحة أرضه، وزيادة وافرها السنوي من الإنتاج، والناتج هو حصاد كم هائل من جهد ومتابعة حثيثة طوال الموسم، ناهيك بالشتاء القارس الذي نال منه كثيراً، وطالما أقعده في الفراش إلا أنّه، وبإصراره وهمّته التي لم تفتر استطاع أن يُحقق حُلمه وحلم والده المقعد الذي سلّمه إدارة الأرض والتصرّف بواردها كيفما شاء، لأنه وبحسب ما يقول والده، جدير بها، وهو العارف بكل شاردة وواردة عنها على الرغم من صغر سنّه الذي لم يفرّط بشبر واحد منها، بل إن ثقة والده به، ومحبة أخوته له وتعامله الصادق مع الآخرين، وحرصه على الاهتمام بأرضه، كل ذلك أنتج وفراً مذهلا دفع بإدارة مجلس الجمعية الفلاحية في قريته إلى ترشيحه كبطل إنتاج، وهذا ما دفع به إلى أن يزيد أكثر من اهتمامه بأرضه الزراعية في المواسم المقبلة، ما جعلت منه فلاحاً متفرّداً ومنتجاً حقّق في أغلب المواسم التالية المراكز الأولى على مستوى بلده لأكثر من سبع سنوات متتالية، ما دعا وزارة الزراعة إلى استدعائه والاحتفال به وتكريمه بتسليمه جائزة قيّمة لم يسبق أن حصل عليها أيّ فلاح من ذي قبل، وكانت جائزته مبلغاً من المال بالإضافة إلى إعفائه لعامين من أجور مياه الري، وإرساله إلى خارج بلده، إلى دولة أجنبية، ولمدة شهر واحد على نفقة الحكومة للاطلاع ومعرفة أصول الزراعات الأخرى الموازية لزراعة القطن، والذي يمكن أن يحقق معها نتاجا وفيرا.

كانت فرحة محسن وأهله كبيرة جداً لا توازيها فرحة، وشكر بدوره العاملين في الوزارة الذين احتفلوا به أيّما احتفال، وبادروا بإرساله إلى دولة أجنبية للتعلّم والإفادة من زراعاتها التي تقوم بها.

هذا الانجاز دفع الكثير من الشباب، أصدقاء محسن العلي الشاب الوسيم إلى التعلّق به والتعلم من خبرته، وغرس بدوره فيهم حبّ الأرض والرغبة في اتباع الطرق العلمية في الزراعة ومدى الاهتمام بها، لأنها تشكل مصدر رزق حقيقيا في حال عملنا بصدق وتفان وإخلاص، وهذا ما سوف يحقق ريعاً مثمراً ودخلاً متميزاً يمكن أن يُخفّف من حاجتنا للآخرين، ويقضي على الفقر الذي يعاني منه الكثير من أبناء الفلاحين، وهذا ما سيدفع بهم نحو تحقيق الريعية التي طالما حلموا بها، فضلاً عن استقرار الشباب والالتزام بالأرض، وإلزامهم بحبها لأجل انتعاش الزراعة وترسيخ مفهوم مدى علاقة الإنسان بالأرض في حال أعطاها ومهّد لها سيكون عطاؤها وفيراً، وتحقيق الاكتفاء الذاتي بدلاً من استجرار كميات من المحاصيل الزراعية الرئيسة المطلوبة بالعملة الصعبة. كل ذلك لا بد أن يتحقق في حال عملنا بجد وبعيداً عن الركض وراء الرغبات، وإهمال الأرض المورد الأساس للزراعة، وترك الحبل على الغارب، عندها لا يمكن تحقيق ولو جزء يسير من رغباتنا وأحلامنا.

كل ذلك مرتبط بقناعاتنا، وإخلاصنا للعمل المراد القيام به مهما كان صعباً، ومع ذلك فإنه بالتصميم والإرادة والإصرار والتحدّي، وقبل ذلك الحب، فإنه لا بد أن يتحقق المستحيل.. في حال توافر الرغبة، وهذا أولاً.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.