13 نوفمبر 2024
الفصل بين الدعوي والسياسي في التجربة المغربية
أعاد قرار حزب النهضة التونسي، فصل عمله السياسي عن نشاطه الدعوي، الحديث مرة أخرى عن علاقة الدين بالسياسة في العالم الإسلامي، وهل يمكن فعلاً الفصل بينهما؟ وهل هناك نماذج أو وصفات جاهزةٌ يمكن تمثلها، أو الاقتباس منها؟
كتبت في هذا الركن، الأسبوع الماضي، أن تجربة حزب النهضة درس لكثيرٍ من حركات الإسلام السياسي في المنطقة، وأن الحكم عليها مازال سابقاً لأوانه، لمعرفة ما إذا كان ذلك الفصل عملا تكتيكيا أم خيارا استراتيجيا لواحدةٍ من أهم تجارب الإسلام السياسي في المنطقة. ونهاية الأسبوع الماضي، وبمناسبة انعقاد المؤتمر الاستثنائي لحزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة المغربية، قال أمين عام الحزب عبد الإله بنكيران إن حزبه كان سباقاً إلى الفصل بين الدعوة والسياسة، من خلال عدة مراجعاتٍ تدريجيةٍ أدت إلى ميلاد ما وصفه بأنه حزب "سياسي مدني".
جاء حديث بنكيران مشحونا بنزعة مزهوة، وهو يقول إن تجربة حزبه صارت مضرباً للمثل، ونموذجاً يحتذى به في باقي مناطق العالم، والحقيقة أن مثل هذا الخطاب غالباً ما نسمعه عند فاعلين سياسيين، عندما يتحدثون عن تجارب مغربية، من قبيل قولهم إن المغرب بلد ديمقراطي، وإن المغرب أنجز انتقاله الديمقراطي منذ سنوات، وكان سباقاً إلى إقامة مصالحة وطنية عبر آلية العدالة الانتقالية. وهذه كلها مقولات نسبية يطغى عليها طابع الخصوصية المغربية التي يعرف أصحابها أنها موجّهة إلى الاستهلاك الخارجي، بالدرجة الأولى، وإلى دغدغة المشاعر الوطنية عند بعض أتباعهم. وهذا موضوع آخر.
وبالعودة إلى علاقة الدين بالسياسة في المغرب، نجد أنها ملتبسة ومتداخلة، في كل مستويات السلطة، على مستوى هرم الدولة، بما أن الملك هو نفسه أمير المؤمنين، وداخل الحكومة حيث وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، كما قال بنكيران، أخيراً، على الرغم من أنها جزء من حكومته، إلا أنها تبقى مجالاً محفوظا للملك.
وحتى على مستوى الحركة الإسلامية في المغرب، فهي نشأت، في أغلبها، في المجال الدعوي، وبرعاية وتشجيع في البداية من السلطة، أي من الدولة. وفي هذا، تختلف الحركة الإسلامية في المغرب، باستثناء تجربة "العدل والإحسان"، عن باقي تجارب الحركات الإسلامية في المشرق التي وجدت، منذ بداية نشأتها، نفسها في صراعٍ مع السلطة القائمة في بلادها. بينما نجد أن الحركة الإسلامية في المغرب، خصوصاً التيارات التي ساهمت في تأسيس حزب العدالة والتنمية، نمت وترعرعت في حضن السلطة، وبرعاية وعناية منها، لمواجهة المعارضة اليسارية في الماضي، ولملء الفراغ الذي أحدثه إضعاف الأحزاب اليسارية وتراجعها في الحاضر. وبما أن الطبيعة لا تحب الفراغ، لم تكن السلطة تسمح لمن سيملأه بدون إذن منها، وتحت رعايتها، وبتنشئة خاصة منها.
فمنذ البداية، سعت السلطة في المغرب إلى تبني استراتيجية الاحتواء، في تعاملها مع الحركة
الإسلامية، بالترهيب أو بالترغيب، فما لا يأتي بالترغيب، تستعمل معه أسلوب الترهيب حتى يلين، ويأتيها متوسلاً متملقاً، كما يحصل اليوم مع رموز الحركة السلفية، الخارجين لتوهم من غياهب السجون والطامحين إلى تأسيس أحزابٍ سياسيةٍ، تعلن ولاءها للسلطة، ومستعدين للتحالف من أجل بلوغ ذلك الهدف، حتى مع الشيطان. وحتى لو كان هذا الشيطان ضابط مخابرات سابق، مازالت تلاحقه تهم التورّط في سنوات الرصاص التي عاشها المغرب في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته وثمانينياته.
وعلى مستوى حزب العدالة والتنمية الذي يقدّمه زعيمه بأنه أصبح "مدنياً سياسياً"، على الرغم من وجود ذراع له دعوي، هي حركة التوحيد والإصلاح، فإن العلاقة بينهما مازالت ملتبسة ومتداخلة على أكثر من مستوى. وقانونياً، تعتبر الحركة نفسها هيئةً مستقلةً عن "العدالة والتنمية"، لكنها تبقى ذراعه الدعوي، باعتبارها هيئةً دعويةً مدنيةً، يحتاجها الحزب في عمله كهيئة سياسية مدنية، فهما يلتقيان حول خدمة المشروع نفسه، وهو إقامة الدين بالنسبة للحركة وإصلاح الدولة بالنسبة للحزب. ولا تحيل كلمة "إصلاح"، هنا، فقط على نهج الاعتدال الذي يقول الحزب إنه يتبناه، وإنما هو أيضاً ضرورة فرضها الواقع السياسي المغربي العصي على استعمال تعابير أخرى، مثل "التغيير" والثورة".
ومن مراقبة أداء الحزب وذراعه الدعوي، فإن ما يجمع بينهما أكثر مما يفرق بينهما، حتى ليبدو أن الأمر يتعلق فقط بنوعٍ من توزيع الأدوار بذكاء، حتى لا يبدو هناك تداخل بين ما بين ما هو دعوي وما هو سياسي. فما عدا الفصل البيّن في استقلالية الهيئتين، والأدوار التي يتقاسمانها بوضوح، فهما يشتركان في البرامج نفسها، وتجمعهما الأهداف الاستراتيجية الكبرى نفسها.
علاقة الدين بالسياسة في العالم الإسلامي، والمغرب جزء منه، تاريخية، وفي الوقت نفسه، متداخلة وملتبسة. نقاط الالتقاء والافتراق بينهما غير واضحة، يصعب التمييز فيها متى وأين تبدأ السياسة، ومتى وأين يتوقف الدين. فلا يكفي فقط الفصل بين المنابر للقول إن هذا هو الفصل المطلوب، لأن المشكل لا يكمن دائماً في المنبر ومكان وجوده، وإنما في الخطاب الذي يفضح هذا التداخل الملتبس بين الدعوي والحزبي. فنجد أن الخطاب نفسه قد يكتسي طابعاً سياسياً عند الحركة الدعوية، عندما تدعو الناس إلى المشاركة في السياسة، والتصويت على الأصلح لإقامة الدين، كما قد يكتسي لبوساً دينياً عند الحزب الذي يدعو أتباعه إلى التحلي بأخلاق الدين، وتمثل مرجعيته في كل عملٍ، يقومون به من أجل إقامة شرع الله على الأرض.
كتبت في هذا الركن، الأسبوع الماضي، أن تجربة حزب النهضة درس لكثيرٍ من حركات الإسلام السياسي في المنطقة، وأن الحكم عليها مازال سابقاً لأوانه، لمعرفة ما إذا كان ذلك الفصل عملا تكتيكيا أم خيارا استراتيجيا لواحدةٍ من أهم تجارب الإسلام السياسي في المنطقة. ونهاية الأسبوع الماضي، وبمناسبة انعقاد المؤتمر الاستثنائي لحزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة المغربية، قال أمين عام الحزب عبد الإله بنكيران إن حزبه كان سباقاً إلى الفصل بين الدعوة والسياسة، من خلال عدة مراجعاتٍ تدريجيةٍ أدت إلى ميلاد ما وصفه بأنه حزب "سياسي مدني".
جاء حديث بنكيران مشحونا بنزعة مزهوة، وهو يقول إن تجربة حزبه صارت مضرباً للمثل، ونموذجاً يحتذى به في باقي مناطق العالم، والحقيقة أن مثل هذا الخطاب غالباً ما نسمعه عند فاعلين سياسيين، عندما يتحدثون عن تجارب مغربية، من قبيل قولهم إن المغرب بلد ديمقراطي، وإن المغرب أنجز انتقاله الديمقراطي منذ سنوات، وكان سباقاً إلى إقامة مصالحة وطنية عبر آلية العدالة الانتقالية. وهذه كلها مقولات نسبية يطغى عليها طابع الخصوصية المغربية التي يعرف أصحابها أنها موجّهة إلى الاستهلاك الخارجي، بالدرجة الأولى، وإلى دغدغة المشاعر الوطنية عند بعض أتباعهم. وهذا موضوع آخر.
وبالعودة إلى علاقة الدين بالسياسة في المغرب، نجد أنها ملتبسة ومتداخلة، في كل مستويات السلطة، على مستوى هرم الدولة، بما أن الملك هو نفسه أمير المؤمنين، وداخل الحكومة حيث وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، كما قال بنكيران، أخيراً، على الرغم من أنها جزء من حكومته، إلا أنها تبقى مجالاً محفوظا للملك.
وحتى على مستوى الحركة الإسلامية في المغرب، فهي نشأت، في أغلبها، في المجال الدعوي، وبرعاية وتشجيع في البداية من السلطة، أي من الدولة. وفي هذا، تختلف الحركة الإسلامية في المغرب، باستثناء تجربة "العدل والإحسان"، عن باقي تجارب الحركات الإسلامية في المشرق التي وجدت، منذ بداية نشأتها، نفسها في صراعٍ مع السلطة القائمة في بلادها. بينما نجد أن الحركة الإسلامية في المغرب، خصوصاً التيارات التي ساهمت في تأسيس حزب العدالة والتنمية، نمت وترعرعت في حضن السلطة، وبرعاية وعناية منها، لمواجهة المعارضة اليسارية في الماضي، ولملء الفراغ الذي أحدثه إضعاف الأحزاب اليسارية وتراجعها في الحاضر. وبما أن الطبيعة لا تحب الفراغ، لم تكن السلطة تسمح لمن سيملأه بدون إذن منها، وتحت رعايتها، وبتنشئة خاصة منها.
فمنذ البداية، سعت السلطة في المغرب إلى تبني استراتيجية الاحتواء، في تعاملها مع الحركة
وعلى مستوى حزب العدالة والتنمية الذي يقدّمه زعيمه بأنه أصبح "مدنياً سياسياً"، على الرغم من وجود ذراع له دعوي، هي حركة التوحيد والإصلاح، فإن العلاقة بينهما مازالت ملتبسة ومتداخلة على أكثر من مستوى. وقانونياً، تعتبر الحركة نفسها هيئةً مستقلةً عن "العدالة والتنمية"، لكنها تبقى ذراعه الدعوي، باعتبارها هيئةً دعويةً مدنيةً، يحتاجها الحزب في عمله كهيئة سياسية مدنية، فهما يلتقيان حول خدمة المشروع نفسه، وهو إقامة الدين بالنسبة للحركة وإصلاح الدولة بالنسبة للحزب. ولا تحيل كلمة "إصلاح"، هنا، فقط على نهج الاعتدال الذي يقول الحزب إنه يتبناه، وإنما هو أيضاً ضرورة فرضها الواقع السياسي المغربي العصي على استعمال تعابير أخرى، مثل "التغيير" والثورة".
ومن مراقبة أداء الحزب وذراعه الدعوي، فإن ما يجمع بينهما أكثر مما يفرق بينهما، حتى ليبدو أن الأمر يتعلق فقط بنوعٍ من توزيع الأدوار بذكاء، حتى لا يبدو هناك تداخل بين ما بين ما هو دعوي وما هو سياسي. فما عدا الفصل البيّن في استقلالية الهيئتين، والأدوار التي يتقاسمانها بوضوح، فهما يشتركان في البرامج نفسها، وتجمعهما الأهداف الاستراتيجية الكبرى نفسها.
علاقة الدين بالسياسة في العالم الإسلامي، والمغرب جزء منه، تاريخية، وفي الوقت نفسه، متداخلة وملتبسة. نقاط الالتقاء والافتراق بينهما غير واضحة، يصعب التمييز فيها متى وأين تبدأ السياسة، ومتى وأين يتوقف الدين. فلا يكفي فقط الفصل بين المنابر للقول إن هذا هو الفصل المطلوب، لأن المشكل لا يكمن دائماً في المنبر ومكان وجوده، وإنما في الخطاب الذي يفضح هذا التداخل الملتبس بين الدعوي والحزبي. فنجد أن الخطاب نفسه قد يكتسي طابعاً سياسياً عند الحركة الدعوية، عندما تدعو الناس إلى المشاركة في السياسة، والتصويت على الأصلح لإقامة الدين، كما قد يكتسي لبوساً دينياً عند الحزب الذي يدعو أتباعه إلى التحلي بأخلاق الدين، وتمثل مرجعيته في كل عملٍ، يقومون به من أجل إقامة شرع الله على الأرض.