الفساد والدولة الأمنية

22 فبراير 2017
+ الخط -
الفساد، أو سوء استخدام السلطة لتحقيق مصلحة شخصية، قديم قدم التنظيمات الاجتماعية السياسية الأولى. ومبكّرا، حاول التفكير الفلسفي في شؤون السياسة علاج تلك الظاهرة، إدراكا منه لخطرها على النظام السياسي والاجتماع البشري. 

منح أفلاطون في جمهوريته طبقات المجتمع الثلاث حرياتٍ غير متساوية، فللزراع والصناع حرية التملك، بما يتماشى وسير العملية الإنتاجية، لكنهم محرومون من مشاركةٍ سياسيةٍ لا تجيدها طبيعتهم، أما الجنود والمحاربون فليس لهم، وعليهم، سوى الطاعة، ممنوعون من الانشغال في التكسّب وتنمية الثروة، أما تدخلهم في شؤون الحكم فخطر يجرّ معه نتائج كارثية. الحرية السياسية الكاملة يمنحها أفلاطون للنخبة الأرستقراطية، وهم قلة من الحكام والفلاسفة، شرط حرمانهم من حرية التملك، درءا لاستغلالهم المنصب في زيادة الثروة الخاصة على حساب المصلحة العامة.
وطالما كانت العلاقة عكسيةَ بين الفساد والمشاركة السياسية، فإنه في دول ديدنها انخفاض المشاركة السياسية، كحال معظم الدول العربية، يستشري الفساد السياسي، لينعكس في المجالات المختلفة، إداريا ووظيفيا وأخلاقيا، منتجا استخداما غير مثالي للموارد المالية والبشرية، واستنزافا لجزء كبير من الأموال العامة، وسوءا في الجودة والنوعية، وانخفاضا في الكفاءات الإنتاجية للمشروعات في القطاعين العام والخاص، ما يؤدي إلى تعثر عمليات التنمية الشاملة.
وفي ظل تخلف نموذج الدولة العربية عن الثورة المعلوماتية والتكنولوجية، لا تزال تعتمد جهازا ضخما من الموظفين، عيّن ورقّى كثيرين منهم في الوظيفة العامة عشوائيا أو بالواسطة، من دون النظر إلى الحاجة الفعلية والمصلحة العامة، لتبدو الآثار السلبية للفسادين، الإداري والوظيفي، على أشدّها، فقسم كبير من الموظفين في القطاع الحكومي لا يجدون ما يقومون به من أعمال (قسم آخر لا يجيد ما يتوفر من أعمال)، ما يولد تضخما في الجهاز، وزيادة في الأعباء على الموازنة العامة للدولة، وصعوبة في تحسين أحوال العاملين في القطاع الحكومي، واستمرار تدني الأجور.
عدم التناسب بين مستويات الدخل والأجور، وبين تكاليف المعيشة، في ظل ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية الضرورية، يدفع الموظف إلى البحث عن أساليب غير قانونية وغير أخلاقية
لمواجهة عيشة ضنك. ونتيجة مطلب الجميع في الرفاهية التي تشكل حافزا مهما للفساد، يتحول الفساد إلى ظاهرة، فيحدث انقلاباً في القيم، لتصبح الرشوة شطارة، والأمانة نوعاً من الهبل والعبط. بل تصبح مناصب معينة وتعيينات حكومية عرضةً للبيع والشراء، وتدفع مبالغ طائلة كنوع من "الفروغ" لتنقلات الموظفين وشواغرهم، بدءا من تعيينات الجمارك وشرطة المرور، وصعودا حتى منصب مدير عام.
وفي ظل فساد الطبقة السياسية، تشيع الفوضى في الأعمال التي تقدمها الدولة ومرافقها، طالما فسدت الرقابة والمحاسبة بفساد من هو أعلى منها. فلم يتردّد مسؤولو دول نامية، ومنهم مسؤولون عرب، في قبول رشىً لقاء دفن نفايات صناعية سامة في بلدانهم، دونما رقيب أو حسيب. أما في بلد كمصر، فاختفت المليارات من الموازنة العامة للدولة في عام واحد، بل يقال من منصبه رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات بعد كشفه عن حالات فساد تجاوزت 600 مليار جنيه. والأدهى والأمّر أن يحاسب بتهمة نشر أخبار كاذبة. أما مهزلة جزيرتي تيران وصنافير فتعكس الحد الذي يؤثر فيه الفساد على استقلالية القرار السياسي للدولة.
ولا يسلم القطاع الخاص من الفساد، مهما بدا مختلفا عن القطاع العام، لجهة المحاسبة والمراقبة، طالما يضطر إلى الانخراط في صفقات فسادٍ مع القطاع العام للحصول على عقودٍ ومناقصات، على أساس الرشى، والمحسوبيات، وتقاسم الأرباح مع مسؤولين في النظام السياسي، في ظل أنظمة عملٍ لا تحمي موظفي القطاع الخاص من التسريح التعسفي، ولا تحفظ لهم حقوقا بعد انتهاء الخدمة.
أظهر تقرير منظمة الشفافية الدولية، الشهر الماضي، استمرار تربّع العرب على عرش الدول
الأكثر فسادا في العالم. وأظهرت نتائج تحرّك المؤشر العلاقة بين الفساد وعدم المساواة التي لا تزال تخلق حالة من الحرمان من المتطلبات الأساسية للمعيشة، وعدم التوزيع العادل للثروة. ربما لم يحمل هذا التقرير السنوي جديدا نوعيا بالنسبة للدول العربية، ما يثير تساؤلا حول جدية الدول العربية في مكافحة الفساد، لاسيما بعد ست سنوات من انطلاق الحراك الجماهيري العربي، أملا في ربيع لاح في الأفق. فهل لنا أن نأمل يوما في انحسار الفساد من ظاهرةٍ إلى مجرد سلوك فردي، لا يفلت من نظام عادل وصارم للمحاسبة والمراقبة؟
في كتابه "السياسة"، أدرك أرسطو العلاقة بين الطغيان والفساد، فيذهب إلى أن الطاغية، في سعيه إلى الحفاظ على سلطانه، يطرد من حوله الأخيار الذين يرون في كل استبداد إهانة، ويتعمد إضعاف رعاياه وإفقارهم، ليسلبهم وسائل إسقاط الطغيان. كما يبذل جهده لإضعاف مستوى رعاياه الأخلاقي، بحظر كل تنور يؤدي إلى شجاعة وثقة في النفس. يتقن الطاغية، وفق أرسطو، درسا مفاده أن النفوس الضعيفة لا تفكر في القيادة.
يؤدي الفساد السياسي إلى ازدواجية في النظام السياسي القانوني من جهة، والنظام السياسي الواقعي من جهة أخرى، ليفقد الجهاز القضائي استقلاليته، ويصبح أداةً في وجه الخارجين على النظام السياسي بمثابته خروجا على القانون. وبهذا، تتحول الدولة من دولة مؤسسات وقانون، إلى دولةٍ أمنية، يجسّدها نموذج الدولة العربية القائم، ويتحول الفساد إلى أداةٍ تستهدف مزيدا من إحكام الأجهزة الأمنية السيطرة على السلطة. يفصح منطق الدولة الأمنية عن نفسه، كما عبر عنه الطيب تيزيني: "يجب أن يفسد من لم يفسد بعد، بحيث يصبح الجميع فاسدين، مفسدين، ومدانين تحت الطلب".
على ذلك، لا يحتمل نموذج الدولة الأمنية العربية وما تبقى منه خططا جادة في مكافحة الفساد، طالما تماهى الأخير وبنيتها، وتماشى مع منطقها، ولا يزال هذا النموذج يجد مصلحته في الإصرار على تقنين الفساد، لا في القضاء عليه، ما جعلنا نشهد سقوطا للدولة وللمؤسسات ولمنظومة القيم.