الفساد.. ممنوع اللمس في العالم العربي

13 ابريل 2018
+ الخط -
من سمات الفساد في الوطن العربي صعوبة الاقتراب منه والخوض فيه من أجل كشفه. ويتعدّى الأمر تلك الصعوبة، ليصل، في حالات كثيرة، إلى درجة التحريم وتجريم المتطاولين على كيانه. وإن حدث وقرَّرت حكومة عربية معالجة مشكلته، فإن ما يحصل هو ضرب بعض رموزه، من دون وضع آليات فاعلة من أجل محاربته. ووصل الفساد إلى مراحل تجذَّر فيها، وأصبح ثقافةً بعد أن كان آفةً مجتمعية، ثم تَمَأْسَس، حتى صارت أي دعوةٍ تُطلقها الحكومات العربية لمحاربته تصبح موضع شكّ وتندُّر مواطنيها الذين باتوا من الوعي بحيث لا تنطلي عليهم تلك الدعوات التي يرون أنَّ فيها عكس المراد منها.
يدفع إلى مقاربة هذه المسألة إصدارُ رئيس القضاء السوداني، حيدر أحمد دفع الله، قراراً، في 28 مارس/ آذار الماضي، نصَّ على: "تأسيس محكمة جنايات تختص بمكافحة الفساد ومخالفات المال العام ونظر الدعاوى الخاصة بقضايا الفساد واستغلال النفوذ والتعدّي على المال العام وتخريب الاقتصاد الوطني". وكانت تلك المرة الأولى التي يصدر فيها قرار تأسيس محكمة على هذه الشاكلة، ما أثار انتباه السودانيين واستغرابهم. ثم تبعت ذلك القرار تصريحاتٌ للرئيس السوداني، عمر البشير، حول الموضوع، في كلمته أمام البرلمان، في 2 إبريل/ نيسان الجاري، اتهم فيها "شبكات الفساد" بالسعي إلى تخريب اقتصاد البلاد وسرقة أموال الشعب، معلناً الحرب عليه لإنقاذ اقتصادها.
لطالما كان الفساد مطيّةَ أفرادٍ وحكوماتٍ، ترمي من رفعِ شعار محاربته مراميَ أخرى، معاكسةً ذلك الشعار. ومن تلك الحالات السعي إلى تلميع صورة زعيمٍ سياسيٍّ، أو الانقضاض على 
الخصوم. وفي وليّ العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، المثال الطازج على هذه الحالة، حين زجَّ منافسيه والمشككين بقدرته على الحكم، في الحجز في فندق "ريتز كارلتون"، بحجة مكافحة الفساد، ثم ابتزّهم لدفع المال السخي في مقابل حريتهم. كما أنه قد يكون من وراء الدعوة إلى محاربة الفساد أو النظر في إحدى قضاياه، الاقتصاص من طرفٍ أخَلَّ باتفاق التحاصص في عقدٍ من العقود التي يقتصر دور طرف أحد رموز الحكم فيه، على تأمين التغطية للمتهم به مقابل حصةٍ معتبرةٍ.
والفساد في الوطن العربي ظاهرٌ، أقطابه وقضاياهم معروفةٌ لدى أجهزة الحكم والقضاء وأجهزة الأمن. وهم يخرجون على المشاهدين من خلال المحطات التلفزيونية الوطنية، يتحدَّثون عن القيم والأخلاق ويمجِّدون الوطن، متوعِّدين الخونة والفاسدين بالقصاص، بينما هم وفسادهم معروفون ومحميون تتعذّر مساءلتهم. كشفهم الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وخاطبهم قائلاً لهم إنه يعرفهم. لكن السيسي أظهر نفسه للشعب المصري قليل الحيلة تجاههم، إذ قال مخاطباً شعبه: "لو أقدر أمنع الفاسد إنه يتولّى أمركم كنت منعته"، إلا أنه وفي المناسبة نفسها، وهي مؤتمر "حكاية وطن" الذي عُقد، في 19 يناير/ كانون الثاني الماضي، بدا قويَّ الشكيمة حازماً، حين أردف مهدِّداً: "وأنا عارف الفاسد مين، عارفهم كويِّس، لكن لأَمانة المسؤولية اللي هيقرَّب من الفاسدين من الكرسي ده (ويقصد كرسي الرئاسة) يحذر مني". فللفاسد، في عرفه، كل مفاصل البلاد الاقتصادية والسياسية، لكي يرتع فيها ما شاء سرقةً ونهباً وتخريباً. وله العبادُ أيضاً، يتحكَّم برقابهم من دون أن تثنيه عنهم يد القانون، وسيبقى جلده سالماً ما دام لا يفكر بالوصول إلى كرسي الرئاسة.
وللسودانيين تجربة في التعامل مع الفساد، ومحاولاتٌ لمحاسبة فاسدين افتُضح أمرهم، إلا أنها لم تكلَّل بالنجاح، فبعد تشكيل لجانٍ لوضع مشاريع قوانين لمحاربته، وتأسيس هيئاتٍ مختصة وإصدار أوامر بتكوين آليات لمكافحته، انكفأت جميعها من دون أن تقدِّم رمزاً من رموز الفساد إلى القضاء. كما أن كثيرا من تلك الكيانات لم ترَ النور لتصبح فاعلةً بعد تشكيل طواقمها وشروعها في عملها. وقد كشف بعضها حالاتٍ، تم التثبت منها، ووُضعت اليد على ملفاتٍ تتعلق بقضايا مخالفاتٍ واعتداءٍ على المال العام ووضعِ اليد على عقاراتٍ وأراضٍ حكوميّةٍ، واكتمل التحقيق فيها، لكن لم يُبت في أي من تلك القضايا.
ووصل الأمر بالمستشار في وزارة العدل، بابكر قشي، الذي كلفته الوزارة برئاسة لجنةٍ
 مختصّةٍ لوضع مسودة قانون لمفوضية مكافحة الفساد التي شكلتها، أواسط سنة 2015، وصل الأمر به إلى التصريح أن الفساد عميقٌ في البلاد، وإن "أمن البلاد القومي مُهدَّدٌ بالفساد"، لكن القانون الذي أعدّته اللجنة المذكورة لم يودع الجهات المختصة لإقراره وإنفاذه. وهي تجارب تجعل المواطن السوداني يرتاب، كما غيره من المواطنين العرب، إن كان هنالك فعلاً نيةٌ حقيقيةٌ في محاربة هذه الآفة في بلاده. حيث يرى هذا المواطن أن فشل محاولات محاربة الفساد، وتعليق البت بكثير من قضاياه، علاوة على وأد اللجان المشكلة من أجله، ليست سوى فرصة للفاسدين لترتيب أوضاعهم، كما إنه فرصة لهم لابتداع أساليب فسادٍ، على القوانين الارتقاء إلى مستوياتها لتستطيع الإحاطة بها، وهو ما يتعذَّر عليها الوصول إليه أو تُمنع عنها المحاولة.
أما ما يقوّي الفساد في البلدان العربية، أن حكومات الدول الغربية، ومؤسساتها المالية التي، في الوقت الذي تشتكي فيه من معدلاته العالية في بعض الدول، عند الحديث عن الإقراض أو الاستثمار، وتدعو إلى محاربته، نراها، في النهاية، تصر على عقد الصفقات المجحفة بحق شعوب تلك البلدان، في مقابل غضّ النظر عن فساد أجهزة حكمها. ويتعدى الأمر هذا الموضوع، ليصل إلى غضِّها النظر عن ممارسة تلك البلدان القمعَ ومصادرة حرية الصحافة والحريات العامة، من أجل الفوز بعقودٍ على تلك الشاكلة، كما في حالة القمع التي يمارسها النظام المصري، والتي يدينها الغرب، ثم يغدق عليه بالعقود.
لم تكن جميع محاولات مكافحة الفساد في الوطن العربي جديةً، حيث لم تبدأ بالإصلاح الإداري، لتمر بوضع آلياتٍ لكشفه، وتنتهي بالمساءلة والمحاسبة المستمرّين، وهي الإجراءات الضرورية للمضي فيه. كما أن قضايا كثيرة ثبت ضلوع متورّطين فيها لم يجرِ البتُّ فيها، ولم يُقدَّم المتورّطون للقضاء أو يودعوا السجون. ومع ثبوت أن أغلب القضايا التي جرى البت فيها وتجريم أصحابها كانت كيديةً، يستنتج المواطن العربي أن الفساد في بلاده مصانٌ، يُمنع الاقتراب منه أو لمسه.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.