الفارس المحبوس في قفص

30 ابريل 2016
(تمثال في "ساحة إسبانيا" في مدريد)
+ الخط -

نقرأ لكي نعرف أننا لسنا وحدنا. ولكي نتعرّف على حيوات أخرى، وندنو من عوالم أخرى وثقافات أخرى، ولنحس عواطف جديدة ونكثف تلك التي عشناها، ونفهم بشكل أفضل مخاوف الجنس البشري. تجربة القراءة لا تنضب بسبب القدرة المكثفة على الاختيار بين الكنوز الهائلة التي تذخرها الكتب. بالقراءة ننصهر مع قلق أشباهنا. وفي الآن ذاته فإن الكتب العظيمة هي أيضاً تقرؤنا، وتذكي فينا المواقف والمشاعر والعواطف التي تسمح لنا أن نعرف ذاتنا أكثر، وأن نكون أشخاصاً في صورة أفضل.

إن قراءة "دون كيخوته" تمدّنا بمغامرة عليا بين مغامرات عديدة تُحْفظ لقرّاء متواطئين، فثربانتس كتبها وهو يحاول الإمتاع والتعليم، في توازن محسوب على مقاس جميع القرّاء. وكما يقول على لسان المتشدّق شمشون كاراسكو، إن قصته جد واضحة، حتى إنه ليس هناك ما يصعب فيها: الأطفال يتحسّسُونها، والشبان يقرؤونها، والرجال يستوعبونها والشيوخ يحتفلون بها.

يبدو أمراً لا يصدّق أن الذين لا يقرؤون، نجحوا اليوم في تثبيت خطأ، وهو أن "دون كيخوتي" عمل ثقيلُ الظلِّ ومُمِلٌّ بينما هو في واقع الأمر أحد أطرف أعمال الأدب العالمي. لقد كان يُقرَأ باعتباره كتاباً هزلياً في زمنه. ما الذي حدث لكي لا يستمر كذلك إلى اليوم؟

لقد حدثت تغيّرات عميقة في مجتمعنا. نحن نعيش في زمن عجلة قصوى، وهذه الرواية طويلة. الأجيال الجديدة وُلدت في خضم ثقافة الصورة. دون كيخوته ينتمي إلى الماضي، وكثير من المُلح المنسكبة من النص ليس من السهل على القارئ الحديث فهمها واستيعابها. ولذلك ينبغي استخدام طبعة مُرْفَقة بشروح وتعليقات موجزة وتفسيرات للكلمات القديمة والمراجع والإشارات التاريخية والأدبية، وغيرها من تهذيبات الأشكال والأساليب.

لماذا قراءة "دون كيخوته"؟ لأنه إذا قُرئ بشكل جيد وفي العمر المناسب، يمكنه أن يمنحنا متعة جمالية هائلة، تلك التي سوف تتكثف أيضاً في كل مرة نعيد فيها قراءته. يحتوي دون كيخوتي محاكاة ساخرة واستهزاء من المغامرات الفروسية التي أشعلت مخيّلة العديد من القرّاء منذ أواخر العصور الوسطى وحتى زمن كاتبها.

يتظاهر دون كيخوته بالجنون لكي يصير الفارس الجوال وبطل كتاب، على هذا النحو يتصرّف في مغامراته ولقاءاته مع شخصيات أخرى، يبحث عن الاعتراف به من طرف الآخرين ويحترم قواعد لعبته. ولكنْ ثمة أناس مثل الكاهن والحلاق، يكسرون هذه القواعد وبالتالي يسحبون الفارس المحبوس في قفص.

ويمثل دون كيخوته أيضاً طريقة في الحياة يتم اختيارها بشكل حر: إنه المستبصر الذي يخلق واقعه، واسمه، وأسلحته، واسم حبيبته دولثينيا ديل طوبوسو، التي تشكل المثل الأسمى المتخيّل من قبل الكائن الإنساني. إن الفارس لم يتراجع قط في الدفاع عن مثله الأعلى في الحب. ولا حتى عندما هُزِمَ من قِبَلِ فارسِ القمرِ الأبيض. وهو بعد ما يزال في هوة القنوط، يعلن إيمانه بدولثينيا بكلمات مرتعشة تجعل الشاعر الرومانسي الألماني هاينه يبكي: "دولثينيا هي أجمل امرأة في العالم، وأنا الفارس الأشقى على هذه الأرض، وليس من الصواب أن يخيِّب ضعفي هذه الحقيقة".

إن رواية ثيربانتس تشكل توليفاً مُحكماً من الحياة والأدب، من الحياة المحلوم بها والحياة المعيشة. تؤكد القيم الأكثر نبلاً للبطولة، وتعكس الكدّ الدؤوب والمكابدات القاسية لنثر الحياة اليومية. تُجسِّدُ درساً لا يفنى في التضامن والعدالة وحب الخير، نتيجة لقدرتها على فهم كل ما هو إنساني، وهي رواية لم يتم تجاوزها. هي نشيد للحرية، تغنّى به رجلٌ نبيلٌ من المانشا، أصبح بقراءته للكتب القارئ المثالي، مؤمناً في ثبات راسخ بما يقرؤه. ولذلك اقترح بيدرو ساليناس تسميته بالقديس الراعي للقراء. وليكن كذلك.

* Ángel Basanta ناقد أدبي إسباني ولد في 1950.

** ترجمة: خالد الريسوني

المساهمون