مازالوا يعيشون كغرباء رغم أنهم استوطنوا هذه الأرض لأجيال متعاقبة، غير اجتماعيين ومنبوذون من طرف المجتمع، يُمارسون السحر والشعوذة وكتابة الطلاسم، يحبّون الترحال ولا يعرفون للمدرسة أو كتاتيب القرآن أو سجّلات الحالة المدنية سبيلًا..هذه أوصاف وألقاب تُطلق على الغجر الجزائريين، الذين يظلون لغزًا محيّرًا لم تفك شيفرته إلى غاية اليوم.
إذا عدنا إلى تاريخ الغجر، نجد أنّ أصول الغجر حسب مصادر تاريخية تعود إلى ما قبل ثلاثة آلاف سنة، عندما اجتمعت وقتها على شواطئ الهندوس قبيلة يُتقن أفرادها صنع المعادن، لاسيما البرونز، وعندما بدؤوا بالهجرة حوالي سنة 1000 قبل الميلاد، و كان سبب هجرتهم من الهند نحو الغرب هي الغزوات البربرية آنذاك.
وقد شقّ الغجر طريقهم إلى العالم عبر 10 قرون إلى 40 بلدًا، وسارت قوافلهم محمّلة بالحرير والشاي والأفكار والتقاليد والعادات وتوجهوا نحو آسيا. ومن هناك تفرّقوا إلى قوافل وفروع، فاتجهت قافلة إلى جزيرة كريت وبلاد البلقان، وتقدّمت أخرى نحو بلدان شمال إفريقيا لتصل أخيرًا إلى إسبانيا، وبعدها باقي دول أوروبا.
في الجزائر يطلق على الغجر هنا تسميات مختلفة، منها "بني عداس" و"الجيتانو" و"العمريون" في بعض مناطق البلاد، خصوصًا في الشرق الجزائري، ويُعرف عنهم أنهم محتالون ويمارسون الشعوذة، لا يملكون هويّة ولا جنسية جزائرية رغم أعدادهم الكبيرة، يقتاتون على الدجل والكهانة، وينصبون على الناس بقراءة الكف وكتابة الطلاسم. ولا تخلو حياتهم من الفوضى والترحال المستمرّ.
وبالرغم من أنّ هويتهم غير ظاهرة للعيان لأنهم لا يختلفون في مظهرهم عن سائر الناس أحيانًا، لكن تكشفهم طقوسهم وتصرّفاتهم، فكثير من ممارسي الشعوذة والدجل ينتمون إلى "بني عداس" أو غجر الجزائر، وتسميتهم تطلق كوصف لكل من قام بسلوك مشين أو "غير حضاري"، ويُضرب بهم المثل في الهمجية والانحطاط الأخلاقي بوصف هؤلاء بأنهم من "بني عداس".
أما تسمية "جيتانو" فهي كلمة إسبانية متوارثة أبًا عن جد في المجتمع الجزائري، تعود للمصطلح الإسباني (gitano) والذي يعني الغجري حرفيًا، ويطلق عليهم بلغة الجمع "جواطنة" في أغلب الأحيان دون معرفة مصدرها نظرًا لانعدام الدراسات والبحوث في هذا الشق الاجتماعي وبالتحديد في علم الأنساب.
يعيش الغجر متفرّقين على عدة مناطق متباعدة من الوطن، يتواصلون فيما بينهم ويعرفون الأماكن التي يقيم فيها أقرباء لهم في الولايات الأخرى، يجتمعون في أماكن الرعي، ويفترقون للحاجة نفسها بإيجاد مناطق أخرى، تطول مدّة اجتماعهم أو تقصر من عدّة أشهر إلى سنوات، لا يملكون عقارات ولا منازل لأنهم لا يتعاملون بالوثائق الإدارية، فمساكنهم الخيام، وطريقتهم في العيش هي الترحال الدائم، يعتمدون أيضًا على الرعي وتربية المواشي، وبعضهم يمتلك رؤوسًا كبيرة من الماشية، يستأجرون أماكن الكلأ والماء، وحين تنفد مصادر الأعلاف يرحلون مجدّدًا قاطعين مئات الكيلومترات سيرًا على الأقدام مع عائلاتهم، يُعرف عن نسائهم ممارسة الكهانة، ويعرف عن شبابهم أنهم يمارسون السرقة والاحتيال، وبالرغم من النظرة "العنصرية" في بعض الأحيان التي يحملها المجتمع نحوهم، إلا أن لذلك أسبابا تاريخية وأخرى مرتبطة بعلاقاتهم وتصرّفاتهم داخل المجتمع.
لا يُعرف الغجر في الجزائر بصفات الترحال والرعي، والأجساد العارية الموشومة و"الدجل" فقط، بل تروي عدة مصادر وحقائق تاريخية أنّ فرنسا الاستعمارية، وظّفتهم في صفوفها لإبادة السكان الجزائريين إبان الفترة الممتدة من (1830-1962)، حيث يروى أنه في الفترات الأولى لدخول الجيش الفرنسي أرض الجزائر، وبعد مقاومة شرسة من الأهالي، لم تجد فرنسا أيّة حيلة لزعزعة هذا الدفاع وإضعاف المجاهدين وإيجاد حليف لها سوى الاعتماد على "بني عداس"، الذين عملوا ضباطا في الجيش الفرنسي أو ما يُعرف هنا في الجزائر باسم "الحركي"، مقابل المال والحماية والطعام، ويقال أنهم قتلوا كثيرين أمام الملأ، مدّعين أنهم من صفوف الثوّار "جبهة التحرير الوطني" وذلك لردع الناس عن دعم الثورة وتشوية صورّة الثوّار أيضًا ودفع الأهالي إلى مقاومة الثورة.
وحسب ما جاء في بعض المقالات الإعلامية، فإنّ فرنسا وضعت تحت تصرّفهم كل ما أرادوا من جياد ولباس وسلاح وذلك بهدف النيل من الجزائريين وإذلالهم، حتى أن أحد الأمثلة التي تطلق اليوم، مرتبط بحادثة تعود إلى الاستعمار الفرنسي، حيث يقال "ترخسي يا الزرقا ويركبوك بني عداس" أي (تُهانين أيتها الفرس الزرقاء ويمتطيك قوم بني عداس)، وتتّفق الروايات في أن هذا المثل ضُرب حين رأى أحد الجزائريين في وقت الاستعمار رجلًا من الغجر، يعمل في صفوف الجيش الفرنسي (خائنا)، ويمتطي جوادًا أصيلًا، فحزّ في نفسه أن يرى أن هؤلاء القوم الرحّالة الذين احتموا بهم لعقود طويلة من الزمن ينقبلون عليهم فقال هذه الكلمة التي راحت مثلًا بعد ذلك. وهو يضرب في الخيانة وإعلاء شأن وضيعي القوم.
وفي سياق طقوس الغجر في دفن موتاهم، وعلاقتهم مع السلطات الجزائرية، وممارسة حقوقهم المدنية واستخراج أوراق ثبوتيتهم، فدائمًا ما يواجهون مشاكل من هذا النوع، وتقف السلطات الجزائرية عاجزة عن إيجاد حلّ لمشاكلهم المتعلقة بدفن موتاهم، كما نقلت صحيفة "الرياض" عن جمال الدين بوزيان، شاب جزائري متخرّج من الجامعة بشهادة ليسانس في علم اجتماع الاتصال، منخرط في مجال العمل الخيري، وكان أحد الذين كتبوا عن أطفال الغجر الجزائريين في أحد المواقع التابعة لهيئة اليونيسف.
أين روى ما عاشه عن أطفال الغجر، عندما يتوفّون بالمستشفيات خلال عمله التطوّعي مع جمعية الأطفال المرضى بالسرطان بالمستشفى، وكيف أنهم يجدون صعوبة كبيرة في إخراجهم من المستشفى ونقلهم إلى مناطقهم البعيدة حيث يسكنون ليتمّ دفنهم، بسبب عدم امتلاكهم لوثائق الهوية، كشهادة الميلاد وبطاقات التعريف والدفتر العائلي والصحية، حيث ترفض المستشفيات تسليمهم جثث ذويهم إلا بتقديم وثائق لاستكمال الإجراءات.
وسرد المتحدّث قصة طفل ينتمي لإحدى قبائل الغجر الرحّالة، حيث توفّي بسبب السرطان في المستشفى، وكيف حضر عمّ الطفل عند السماع بوفاته، لكنّه لم يستطع فعل أي شيء لإخراج جثّة الطفل من المستشفى بغرض دفنه.
ويُعرف عن "بني عداس" أو غجر الجزائر، في بعض الحالات، وعندما يتعلّق الأمر بالدفن، أنهم يتركون موتاهم أمام المسجد ويرحلون بلا رجعة بسبب عدم امتلاكهم لوثائق الهوية من جهة، ومن جهة لمعرفتهم أنهم منبوذون في المجتمع ولا يريدون الظهور.
تبقى أعداد الغجر في الجزائر غير معروفة بالتحديد، بالرغم من أنهم يتوزّعون على عدد من مناطق الوطن، لأنهم يرفضون التسجيل في مصالح الحالة المدنية وفي مختلف المؤسّسات الأخرى، كتلك التابعة للضمان الاجتماعي أو قطاع السكن أو التعليم من الابتدائي إلى الجامعي.