11 نوفمبر 2024
العُري والاحتشام وفستان المدام
أصدرت نقابة الممثلين المصرية بياناً حادّاً ضد الممثلة رانيا يوسف، رداً على حضورها مهرجان القاهرة السينمائي بفستانٍ يكشف من جسدها أكثر مما يستر. غريب إقدام النقابة على إصدار بيان يتعلق بواقعة سلوكٍ شخصي لفنانة، لكن الأغرب ما تضمّنه البيان من نبرةٍ وصائية وتحكّمية غير مبرّرة، ولا أساس لها، فقد تحدث البيان عن مظهر "لا يتوافق مع تقاليد المجتمع وقيمه وطبائعه الأخلاقية"، كما لو كانت النقابة هي التي تحدد تلك القيم والطبائع. ثم منحت النقابة لنفسها حق المساءلة وسلطة العقاب لمن تعتبره "تجاوز في حق المجتمع، وسيلقى الجزاء المناسب".
واضحٌ أن النقابات ومؤسسات الدولة في مصر تتصرّف كما لو كانت وصياً على المجتمع، وتتجاوز حدود دورها النقابي أو المهني، لتلعب دوراً أبوياً. وللأسف، يفتقر بيان نقابة الممثلين إلى أي مرجعيةٍ تدعمه، وتبرّر إصداره بهذا المضمون الوصائي. فمن الناحيتين، القانونية والمهنية، لا تملك أي نقابةٍ أو جهة عمل، فرض زي معين أو شروط محدّدة لما يجب على منتسبيها مراعاته في الملبس أو المظهر العام (باستثناءات قليلة مثل السلك الدبلوماسي والقضاء والمؤسسات الأمنية). فكيف الحال إذا كان الأمر يتعلق بالفن والفنانات، حيث المظهر والجمال جزء أصيل من العمل، ومن شخصية وشعبية صاحبه. وكثيراً ما يتقبل الجمهور سلوكياتٍ تبدو غريبة من بعض الفنانين، كارتداء أزياء أو ألوان غير تقليدية، كنوع من الدعاية أو رسم صورة ذهنية مميزة لدى الجمهور (شكوكو قديماً وشعبان عبد الرحيم أخيراً). غير أن مسألة العري أو الاحتشام في أزياء الفنانات لا تدخل في ذلك النطاق المهني العام، ولا الشخصي الخاص. فحتى لو كانت الفنانة راقصةً، وتتعرّى في عملها، إلا أن التعرّي خارج نطاق العمل يخضع بالضرورة للضوابط المجتمعية الأخلاقية التي ينبغي التقيد بها، والتي تخرج بالطبع عن صلاحيات النقابة المهنية وقدراتها.
لا قواعد جامدة أو حدود ثابتة لما يجب وما لا يجب اتباعه، أو تجنبه في الثقافة المصرية العامة حالياً، فقد تدهورت منظومة القيم بشكل ناعم ومتدرج في العقد الأخير، حتى انهارت تماماً، مقارنةً بما استقرت عليه عقودا بل قرونا سابقة. والأخطر هو سقوط المرجعيات واهتزازها في العقل الجمعي، سواء المرجعيات القيمية مثل الدين والتربية الأسرية والقيم الاجتماعية السائدة، أو المرجعيات المؤسسية، كالمدرسة ودار العبادة ووسائل الإعلام. كلها لم تعد محل ثقة أمام تراجع بعضه مفتعل وبعضه حقيقي. مثلاً، لو كان فستان رانيا يوسف يخفي ولو قليلاً مما كشف، فما مسافة العري التي كان يجب الوقوف عندها، ومَن الذي يحدّدها ووفق أي معيار.. الدين أم القانون أم المزاج العام أم نخبة المثقفين أم مراجع أخرى؟
وليس من الواضح إذا كانت المعايير واحدةً في كل الحالات، أم أن ثمّة انتقائية في تحديد المسموح والممنوع. وهنا تعاني بعض النخب المصرية من تناقض صارخ، خصوصاً من يطلقون على أنفسهم مثقفين ومفكرين أو إعلاميين. فضلاً عن عدد من المحامين، ومشتغلين في النشاط الحقوقي والنسوي خصوصاً، فدائماً يرفض هؤلاء ما يعتبرونه تسلطاً دينياً على حرية الأفراد وممارساتهم الشخصية، خصوصاً فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية والحياة الأسرية. كما يدافعون بشدة عن حرية الإبداع وإطلاق العنان للفن، بمختلف أشكاله واتجاهاته وأياً كانت شطحاته، بما فيها تناول الأديان والمقدسات في الأعمال الفنية والأدبية من دون أي قيود، لكنهم يعتبرون الاحتشام في زي المرأة رجعيةً، ودليل تخلف، وليس حرية شخصية أو اختيارا فرديا لا يجب تقييده.
المشكلة الحقيقية في فستان رانيا يوسف ليست مدى تعرية جسدها أو مساحة تغطيته، وإنما في غموض معايير العيب والفسق، بل غيابها، في مقابل الاحتشام والاحترام. ولوضع هذه المعايير، ورسم الخطوط الفاصلة التي يفترض أنها تعكس الذوق العام والتوافق المجتمعي، يجب الاتفاق على طبيعة وكينونة المرجعيات التي سيأخذ المجتمع منها تلك المعايير.
واضحٌ أن النقابات ومؤسسات الدولة في مصر تتصرّف كما لو كانت وصياً على المجتمع، وتتجاوز حدود دورها النقابي أو المهني، لتلعب دوراً أبوياً. وللأسف، يفتقر بيان نقابة الممثلين إلى أي مرجعيةٍ تدعمه، وتبرّر إصداره بهذا المضمون الوصائي. فمن الناحيتين، القانونية والمهنية، لا تملك أي نقابةٍ أو جهة عمل، فرض زي معين أو شروط محدّدة لما يجب على منتسبيها مراعاته في الملبس أو المظهر العام (باستثناءات قليلة مثل السلك الدبلوماسي والقضاء والمؤسسات الأمنية). فكيف الحال إذا كان الأمر يتعلق بالفن والفنانات، حيث المظهر والجمال جزء أصيل من العمل، ومن شخصية وشعبية صاحبه. وكثيراً ما يتقبل الجمهور سلوكياتٍ تبدو غريبة من بعض الفنانين، كارتداء أزياء أو ألوان غير تقليدية، كنوع من الدعاية أو رسم صورة ذهنية مميزة لدى الجمهور (شكوكو قديماً وشعبان عبد الرحيم أخيراً). غير أن مسألة العري أو الاحتشام في أزياء الفنانات لا تدخل في ذلك النطاق المهني العام، ولا الشخصي الخاص. فحتى لو كانت الفنانة راقصةً، وتتعرّى في عملها، إلا أن التعرّي خارج نطاق العمل يخضع بالضرورة للضوابط المجتمعية الأخلاقية التي ينبغي التقيد بها، والتي تخرج بالطبع عن صلاحيات النقابة المهنية وقدراتها.
لا قواعد جامدة أو حدود ثابتة لما يجب وما لا يجب اتباعه، أو تجنبه في الثقافة المصرية العامة حالياً، فقد تدهورت منظومة القيم بشكل ناعم ومتدرج في العقد الأخير، حتى انهارت تماماً، مقارنةً بما استقرت عليه عقودا بل قرونا سابقة. والأخطر هو سقوط المرجعيات واهتزازها في العقل الجمعي، سواء المرجعيات القيمية مثل الدين والتربية الأسرية والقيم الاجتماعية السائدة، أو المرجعيات المؤسسية، كالمدرسة ودار العبادة ووسائل الإعلام. كلها لم تعد محل ثقة أمام تراجع بعضه مفتعل وبعضه حقيقي. مثلاً، لو كان فستان رانيا يوسف يخفي ولو قليلاً مما كشف، فما مسافة العري التي كان يجب الوقوف عندها، ومَن الذي يحدّدها ووفق أي معيار.. الدين أم القانون أم المزاج العام أم نخبة المثقفين أم مراجع أخرى؟
وليس من الواضح إذا كانت المعايير واحدةً في كل الحالات، أم أن ثمّة انتقائية في تحديد المسموح والممنوع. وهنا تعاني بعض النخب المصرية من تناقض صارخ، خصوصاً من يطلقون على أنفسهم مثقفين ومفكرين أو إعلاميين. فضلاً عن عدد من المحامين، ومشتغلين في النشاط الحقوقي والنسوي خصوصاً، فدائماً يرفض هؤلاء ما يعتبرونه تسلطاً دينياً على حرية الأفراد وممارساتهم الشخصية، خصوصاً فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية والحياة الأسرية. كما يدافعون بشدة عن حرية الإبداع وإطلاق العنان للفن، بمختلف أشكاله واتجاهاته وأياً كانت شطحاته، بما فيها تناول الأديان والمقدسات في الأعمال الفنية والأدبية من دون أي قيود، لكنهم يعتبرون الاحتشام في زي المرأة رجعيةً، ودليل تخلف، وليس حرية شخصية أو اختيارا فرديا لا يجب تقييده.
المشكلة الحقيقية في فستان رانيا يوسف ليست مدى تعرية جسدها أو مساحة تغطيته، وإنما في غموض معايير العيب والفسق، بل غيابها، في مقابل الاحتشام والاحترام. ولوضع هذه المعايير، ورسم الخطوط الفاصلة التي يفترض أنها تعكس الذوق العام والتوافق المجتمعي، يجب الاتفاق على طبيعة وكينونة المرجعيات التي سيأخذ المجتمع منها تلك المعايير.