هل هذا زمن الثورات المجهَضة؟ أطلق "الربيع العربي" سلسلة من الثورات، باءت كلّها بما يتجاوز الفشل، ليس بعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه، بل بارتفاع وتيرة الطغيان، والتحكُّم بمصائر الشعوب، وتسيُّد الدولة الشمولية، بعد اختطاف الثورات إلى متاهات الظلامية، ما كان سيفضي بالبلاد إلى مستقبل حالك السواد.
اليوم، المنطقة في وضع انتقالي غامض، يستعصي التنبّؤ إلى أين ستمضي بلدانها، مهما تنوّعت مصائرها، فالظلام مهما اشتد متشابهٌ. ما الذي أدّى إلى هذا التردّي المشبَع بالغفلة؟ ليس العسكر وحدهم، ولا الجهل بالحقوق، ولا كبت الحريات فقط، الأدب له نصيب أيضاً. هل يمكن الزعم أن السلطات العسكرية التي تسلّمت زمام البلاد بانقلابات، خدعت الأدباء عندما وعدتهم بمتغيّرات جذرية؟
اعتقَد الأدباء أن السلطة تمتلك ما يفتقدون إليه، فأوكلوا أمور البلد إلى الأيدي الأمينة التي ظهَر أنها الأيدي الباطشة، فأصبح البلد ملكاً للعسكر واللصوص معاً. كيف نستعين بالأدب لمواجهة أوضاع تتّصف بالاضطرابات تتقاذف البشر وتسحقهم، بينما تتحكّم بهم ممنوعات الأديان والجنس، في حين تتحكّم السياسة بهم وبالجنس والدين.
ولئلا نزجّ بالأدب في معمعة غير قادر عليها لمجرَّد أنه أعزل غير مسلّح، رغم أن ما يمتلكه يفوق السلاح بالنظر إلى أبعد، ما يمنع الأنظمة من استغلاله لمآربها، ولقد كان في استغلالها مقولة الالتزام دليل لا يخطئ، إذ كان الالتزام بمشروعها القمعي، تُبدى بنزع أظافر الفن بعدم توجيه الاتهام إليها في كبت الحريات، بل الادعاء بأن النظام لا يخشى من النقد، فكان راضياً عنها، بل وأصبح تحت حماية السلطة وداعياً لها، بينما كانت السجون تغص بالمعتقلين.
على الطرف المقابل، ظهر اتجاه يدعو إلى التطهُّر من السياسة، فالأدب ليس داعية، والسياسة وصفة لموت الأدب. ولا يصحّ الزج به في الأزمنة الانقلابية، ولو كانت ثورية، مهما بلغت راديكاليتها وطهرانيتها، غير أن الردّة إلى الفن بلغت من التطرّف أنها لدى أي تلميح للسياسة، تُلحق الأدب بالأيديولوجيات المغلقة. بات ظهور عسكري بالخاكي، أو محقّق في رواية، يوحي بتسييس الأدب، فلم تجد فنون التعبير عن الواقع منفذاً، إلا بالكثير من المواربة والترميز الحذر والغامض، حتى باتت دلالاتها تحتاج إلى توضيح وتفسير وتأويل، وبمجرّد انكشافها تسقط عنها صفة الفن.
هل الأدب على علاقة قوية بالحياة، أم أنه يقبع على هامشها؟ إذا كانت حياتنا تضجُّ بالسجون والمعتقلات والعسكر والدكتاتوريين والتعذيب والموت... فهل الأدب منها براء، يخشى فضحها كرمى لعيون الفن، لئلا تشوّه عفّته، وتسيء إلى سمعته؟ إذا كان مسموحاً للأدب بالتحليق في هوامش الحياة، فلدفعنا إلى العيش على الهامش.
تُرى، هل يعوّل على قدرة الأدب في التغيير، وشق الطريق نحو المستقبل أفضل؟ لئلا نبالغ، إنه يمنحنا ما هو قادر عليه، الإيمان بأن الإنسان ليس مكرّساً لليأس، وأن بوسعه أن يصنع مصيره بكرامة.