وبالإضافة للبعد السياسي، ساهم بعدان آخران في تحوّل العالم إلى "قرية صغيرة" كما يحلو لمنظري العولمة وصفه، فأمّا الأول فهو بلا شك التطوّر المذهل لتكنولوجيا المعلومات وثورتها وأساسًا الإنترنت، التي اختزلت المسافات وترسّخت كإحدى مشكلات ملامح المشهد الجديد.
وأما الثاني؛ فيتعلق بتعاظم دورة التحوّلات الاقتصادية، المتزامنة مع ازدهار مجال التجارة الدولية التي نجحت في "تحطيم" الحواجز الجمركية، وأسّست حركية غير مسبوقة على مستوى تبادل السلع والمعرفة والخبرات بين قارات العالم ودوله، وجعلت من الأرض سوقًا واحدة، البقاء فيها للأقوى.
وفي حقيقة الأمر، العولمة عولمات أخرى، منها السياسي والإقتصادي والثقافي، بل إن لفظ العولمة بات ملاذ كل مُفكّر يريد الحديث عن انتشار ظاهرة أو توصيف نسق ما، فتجد عولمة الإرهاب وعولمة الرّعب بأقصر الكلمات ودون الحاجة لكثير الكلام. وكان من أبرز العناوين التي رفعها المُحتفون بالعولمة، أن كل العالم سيستفيد من إسقاط الحدود والحواجز، وأنه ستتم إعادة تثمين قيمة الفرد على حساب الأنظمة والدّول، بالإضافة لنشر القيم الكونية وتكريس المُساواة الإنسانية بهدف التّصدّي للآثار السلبية التي تنتجها منظومات التقوقع القومي أو الإثني.
إلا أن المُتأمّل في صفحات التاريخ القريب، يلحظ بيُسر أن المُعسكر الغربي، وهو الحاضنة الأولى للعولمة، كان أوّل من انقلب عليها وعلى مُثلها الفلسفيّة في محطّات الاختبار الحقيقية التي مرّ بها.
نذكر جميعًا أن الأزمات الاقتصادية التي عاشتها دول الاتحاد الأوروبي أو حتى الولايات المُتّحدة الأميركية كانت وراء دعوات وقرارات رفع الحواجز في وجه السلع الأجنبية أو جزء منها على الأقل، وحماية المنتوج الوطني، مُنهية أسطورة القرية الواحدة ووحدة الدول والسوق المفتوحة.
نظريًا، المجتمعات الغربية عموما سواءً الأوروبية أو الأميركية تُعتبر من أكثر المُجتمعات استفادة من ظاهرة العولمة، بحكم انتمائها لدول تُعتبر فاعلة في هذه المُعادلة. العولمة في جانبها الثقافي لم تكن يومًا ثُنائية الحركة وكانت ذات اتّجاه واحد.. والعولمة في جانبها الاقتصادي لم تُسهم في تحريك خارطة الثّروة العالمية باستثناء "الاستثناء الصيني" وبعض الدول الأخرى التي تنتظر التأكيد، وحتى مع هذه الاستثناءات، لم تتزعزع مكانة الأقطاب الجديدة في النّهاية وظلّت في مكانها ضمن نادي الأسياد.
وإذا تجاوزنا ما سبق، فإن المُؤشّرات التي تدلّ على بداية الاستعداد لما بعد العولمة عديدة؛ فبعد "البريكسيت" وتصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي يُعتبر ثمرة من ثمار موجة العولمة، وبعد ارتفاع أسهم اليمين المُتطرّف الذي يرفع شعارات الهويّة القومية والعداء للأجانب والوافدين المُهاجرين، انتصر دونالد ترامب الذي إن جمعنا رسائله السياسية ووعود حملته الانتخابية مع إخفاء هويته، لخلصنا بيُسر إلى أنها نابعة من علم من أعلام مُناهضة العولمة.
إن ضرب مبدأ حرية الحركة البشرية والانغلاق المُجتمعي، والتصدّي للمهاجرين والتهديد بضرب حرية الحركة التجارية انتقامًا من الغزو التجاري الصيني وتحت ذريعة حماية النسيج الاقتصادي الأميركي، هي شعارات أصيلة في حملة ترامب، تُعد بلا شك انتفاضة على عولمة طالما تباهى بها الرّجل الأبيض وشكّل من أجلها مُؤسّسات وهيئات صناديق.
وسواء مضى ترامب في تنفيذ وعوده (وأعتقد أن السيستم لن يسمح له بذلك) أو لم يفعل، فإن نجاحه في كسب أصوات الأميركيين بعناوين انتخابية كهذه، يكشف أن العولمة بصدد الانتهاء في الأرض التي أنبتتها (خاصّة إذا ما وضعنا هذا الفوز في سياق الأحداث في باقي دول العالم)، وبأن القرية الصّغيرة لم تعُد مُستساغة لدى القسم المحظوظ من مُتساكنيها، وأنّنا رُبّما أمام مُقدّمات لأشكال حضارية جديدة ستُعيد تشكيل المُجتمعات ضمن دوائر قومية أو إثنية أو عقائدية، وقد تنفلت الأمور لنشهد من جديد حقبة ما قبل الدّولة، في ظلّ المنسوب المُرتفع للتّوحّش الإنساني خلال السنوات الأخيرة.