مع اتّساع رقعة الحراك الشعبي، وتكثيف المظاهرات السلميّة، والنشاطات المدنيّة، المطالبة للنظام السوري بالتنحّي، بدأ العمل على تأسيس مجموعاتٍ مدنيّة، أخذت على عاتقها الاستمرار بالحراك المدني السلمي، عبر تنظيمها المظاهرات السلميّة، وتنفيذها للنشاطات المدنيّة، مثل الهجوم على القصر الرئاسي من جبل قاسيون بالليزر، ومسيرة الشموع في حلب، التي نسبتها "قناة الدنيا" لمجموعات مؤيّدة للنظام، في ذلك الوقت.
إذ، بعد نصف قرن تقريباً من توقّف الحراك السياسي في سورية، واقتصاره على ما كان يعرف بـ "الجبهة الوطنيّة التقدميّة"، التي أسّسها حافظ الأسد، وكانت الأحزاب المنضوية تحت لوائها، تمارس عملها الحزبي، في ظلّ رقابة حزب البعث العربي الاشتراكي، لنشاطها السياسي، حتّى إن الصحف التي كانت تصدر عن الأحزاب المنتسبة لـ"الجبهة الوطنيّة التقدميّة"، كان يتم تداولها بين أعضاء الحزب الواحد، ولم يكن يسمح لها بالتداول في المكتبات المخصّصة لبيع الصحف.
إلّا أنّ هذا المشهد الذي يطغى على الحراك السياسي، تغيّر مع ارتفاع نسبة المظاهرات السلميّة في المحافظات السوريّة، ووجد النظام السوري نفسه أمام مشهدٍ مغاير، فجأةً بدأت الثورة السوريّة، تفرز نواةً جديدة، لمجموعاتٍ مدنيّة، لها رؤى سياسيّة وأهداف ومبادئ تسعى من خلالها إلى بناء إطارٍ ديمقراطيٍّ للعمل السياسي، تطالب بتعديل مواد الدستور وانتخاباتٍ رئاسيّة تعدديّة، مستمدّةً قوّة وجودها وأثرها على الأرض، من نشاطاتها التي كانت تقوم بها، ورفضها للعسكرة، في ظل محاولاتها الهادفة إلى كشف ملامح القمع الممنهج، الذي كانت تمارسه أفرع الأمن بحقّها.
فجأةً، أعلنت هذه المجموعات توقّفها عن العمل السياسي، نتيجة تعرّضها للملاحقة الأمنيّة، ومنهم من استطاع الإفلات من قبضة النظام، ومنهم من اعتقل، ليُقتل تحت التعذيب، ومنهم من تمّت محاكمته في محكمة الإرهاب، بحجة دعمه المنظمّات الإرهابيّة، وتخابره مع دول أجنبيّة، هكذا، استطاع الأسد الابن، أن يقضي على المراحل المدنيّة في الثورة، ويجعلها تنتقل تدريجيّاً للعسكرة، ولكن بسرعة، قبل أن تصل إلى أقصى مراحل العسكرة، في المرحلة الراهنة، نتيجة استخدامه المفرط للعنف، بحقّ المدن الثائرة والتي كان أكثر ضحاياها تأثراً هو الريف السوري في معظم المدن.
تسلّط هذه المادّة الضوء، على تجارب مجموعتين مدنيّتين، كان لهما نشاطهما البارز في الثورة السوريّة، فهي تتّخذ من تجربة "الشباب السوري الثائر" الذي نشط في العاصمة دمشق، قبل أن يعلن توقّفه عن العمل، بعد استشهاد تسعة من أعضائه، في أقبية النظام السوري، خلال العام الفائت، كما تلقي الضوء على تجربة "تنسيقية التآخي الكردية" التي كانت تنشط في حلب، قبل أن تعلن توقّفها عن العمل السياسي، نتيجة سيطرة الكتائب المتطرّفة على المدينة، واستحالة العمل المدني.
الشباب السوري الثائر
تأسّست المجموعة في الأول من مايو/أيار 2012، في حي ركن الدين الدمشقي، على يد مجموعة من الشباب اليساري، تتميّز تجربة الشباب السوري الثائر، بأن معظم أعضائها، كان ينشط بشكلٍ فردي في المظاهرات التي كانت تُنظّم في الحي.
عمل أفراد المجموعة قبل التأسيس، مع "ائتلاف اليسار السوري"، حيث شاركوا في تنظيم المظاهرات، والنشاطات المدنية، بعد تأسيس المجموعة، شارك أعضاؤها في معظم المظاهرات التي كانت تنظّم في أحياء دمشق، كما عملوا بشكلٍ فردي في مجال الإغاثة، وكان لهم مشاركة بارزة في "المشفى الميداني" الذي وجد في حي ركن الدين، أثناء الاشتباكات بين قوّات النظام السوري، والكتائب المعارضة، قبل أن تنسحب منها الأخيرة، إذ، كان لدى الجميع اليقين الكامل، بأنّ النظام لن يتخلّى عن هذا الحيّ، نظراً لأهميته الاستراتيجيّة، وقربه من قصر المهاجرين.
استطاعت المجموعة أن تضفي على الحراك السلمي، الجانب اليساري، من خلال طرحها العديد من المفاهيم، والأفكار اليسارية في اللافتات التي كانت ترفعها، كذلك تبنّت المجموعة في بيانها التأسيسي، استعادة الجولان المحتل، والقضيّة الفلسطينية، وأكّدت أن تطوير الاقتصاد، وتحسين الواقع التعليمي، من ضمن أهدافها، وهو ما وضعها في مواجهة مباشرة مع اليسار التقليدي، من خلال تبنيها لخط وطني، ديمقراطي عام، غير محدد إيديولوجياً، رغم أنه يساري التوجه بشكل ما، وهو ما ساهم في استقطابها لمختلف الشرائح في سورية، وسهل عملها في مختلف المحافظات والمدن السورية.
تعرّضت المجموعة في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، لضربة كبيرة، بعد اعتقال النظام أربعة نشطاء منها، قبل أن يفرج عن ثلاثة منهم، في صفقة التبادل الشهيرة، التي قام فيها النظام بإطلاق سراح 2200 معتقل، مقابل تسليم كتائب المعارضة لـ 48 معتقلاً إيرانياً كانت تحتجزهم، بينما أُحيل الناشط الأخير لمحكمة الإرهاب، وحكم عليه بالسجن خمس سنوات، عاد الشباب للعمل من جديد، بعد الإفراج عنهم، بدأوا تنظيم المظاهرات مرّةً أخرى، على الرغم من تغيّر المشهد، فالنظام فرض قبضته الأمنية على العاصمة، وبدأ العمل يخفّ تدريجيّاً، إلى أن توقّف نهائياً في منتصف 2013.
نظّم الشباب السوري الثائر آخر مظاهرةٍ له، في منتصف شهر حزيران/يونيو 2013، ليتّخذ بعد ذلك قراراً بالتوقّف عن العمل السياسي، ففي 31 ديسمبر/كانون الأول 2013، كانت مجموعة من النشطاء، تعمل على تنظيم مجموعة من الأنشطة، تسعى لتنفيذها مع بداية العام الجديد، في محاول لاستعادة النشاط السلمي في الثورة، إلّا أن النظام كان على علمٍ بالنشاط الذي يتمّ التحضير له، واعتقل ثمانية أعضاء من المجموعة، بعد فترة قام الأمن السوري بالإفراج عن اثنين من النشطاء المعتقلين، ومع نهاية عام 2014، أعلنت المجموعة توقفها عن العمل، نتيجة استشهاد النشطاء البقية، والذي كان عددهم ستة، في أقبية النظام السوري، تحت التعذيب.
تنسيقية التآخي الكردية
تأسّست المجموعة في أكتوبر/تشرين الأول 2011، على يد مجموعة من الشباب الذي كان ينشط في تنسيقيّات الأحياء، في مدينة حلب، المجموعة طرحت منذ البداية فكرة التعايش السلمي، بين مكوّنات المجتمع السوري، كما أنّها ضمت في أعضائها نشطاء ينتمون لمعظم الطوائف، التي يغصّ بها المجتمع السوري.
بعد تأسيسها بفترة قصيرة، بدأت المجموعة توسّع إطار نشاطها، فأشرفت على العديد من المدارس، التي كانت تؤوي النازحين من ريف حلب بعد اشتداد المعارك بين الكتائب المعارضة وقوّات النظام السوري، واستخدام النظام الطيران الحربي في قصفه الريف، كما عملت في مجال الإغاثة، وتنظيم المظاهرات الطيّارة، وأشرفت على أحد المشافي الخاصة، التي تمّ تحويلها مشفى ميدانياً استقبل المتظاهرين المصابين في المظاهرات.
بعد سيطرة كتائب المعارضة على أجزاء كبيرة من مدينة حلب، شاركت المجموعة في إعداد لجنةٍ تحضيريّة، لتشكيل المجلس المحلّي لمدينة حلب، ومجلس محافظة حلب، كما عملت المجموعة مع الأب باولو دالوليو، المختطف من قبل تنظيم "الدولة الإسلامية"، على إجراء مصالحة بين مدينتي "نبل والزهراء" المواليتين للنظام من جهة، ومدينة "حيان" المسيطر عليها من قبل المعارضة السورية من جهةٍ أخرى، إلّا أن المصالحة فشلت، لأن صوت السلاح كان طاغياً.
ساهم التحوّل التدريجي في مسار الثورة السورية، وسيطرة الكتائب المتطرفة، على معظم المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية، في انحسار العمل المدني، ففي عام 2013، ومع انتشار فوضى السلاح والتطرّف بقيت "التآخي" مستمرّةً في حراكها المدني اللاعنفي مكثّفةً تظاهراتها واعتصاماتها المطالبة بإسقاط النظام، وإيقاف انتهاكات الكتائب المسّلحة بحق المدنيّين، فقامت مع مجموعةٍ من النشطاء بحملات مدافعة عدّة، أهمّها حملة "لهون وبس" والتي قامت ضدّ التطرّف والفوضى، في المناطق المسيطر عليها من قبل قوّات المعارضة.
وفي منتصف عام 2014، بعد مضي ما يقارب سبعة أشهر، على بدء النظام السوري، شن حملة "البراميل المتفجرة" على مدينة حلب، وبدأت الكتائب الإسلامية المتطرفة تبسط سيطرتها بشكلٍ مكثّف، أعلنت المجموعة توقّفها عن العمل المدني السياسي، يقول غيفارا نبي لـ"جيل العربي الجديد"، "كانت سياستنا قائمة على أهميّة خلق هويّة سوريّة جامعة، وعدم المهادنة في مطالب ثورتنا، لم نستطع مهادنة الفصائل المسلّحة التي كانت تمارس انتهاكاتٍ بحقّ المجموعات المدنيّة، ولعلّ ذلك هو الشيء الوحيد الذي نحن راضون عنه، لم نتنازل عن مبادئ الثورة، وسورية يجب أن تكون لكافة المكونات الإثنيّة، والعرقيّة، والقوميّة، التي تعيش فيها منذ الأزل". ويضيف قائلاً حول قرار التوقّف عن العمل المدني "لم يعد لدينا أدنى هامش لممارسة العمل المدني، لدينا مختطفون عند تنظيم "الدولة الإسلامية"، ومعتقلون في سجون النظام السوري، ولدينا أعضاء يعانون من إصاباتٍ، تعرضوا لها، أثناء تغطيتهم المعارك بين النظام السوري، وكتائب المعارضة، إلى جانب فقداننا الأمل في إيجاد إرادة جديّة للمجتمع الدولي لإسقاط النظام، كلّ ذلك أنهكنا، ولذلك لم يعد بمقدورنا سوى التوقّف عن العمل".
(سورية)