19 أكتوبر 2019
العرب والمؤقت الدائم
من بين ميزات المشهد السياسي العربي عموماً تحول المؤقت إلى دائم، وكأن القاموس السياسي يعتبر الظرفي والدائم مترادفين، ومن دلالات هذا الخلط في "العقل السياسي" العربي تحول المراحل الانتقالية إلى دائمة، والطارئ إلى بنيوي.
ففيما يخص الانتقال، اعتاد الخطاب السياسي العربي على التأكيد أن البلاد تعيش مرحلة انتقالية، مآلها التحول إلى الديمقراطية. لكن، بعد عقود من الانتقال، لم تأت الديمقراطية، وكل ما حدث هو استمرار الوضع القائم. ليصبح التنائي بديلا عن التداني بين "العملية الانتقالية" و"العملية الديمقراطية". حيث عرف الانتقال، بمراحل أو بدونها، تحولاً معقداً، فبعد أن كان نظرياً وسيلة للوصول إلى غاية محددة (الديمقراطية) أصبح هدفاً في حد ذاته في جانب، ووسيلة في جانب آخر، وسيلة لإجهاض أي محاولة للتغيير أو للإصلاح.
قيل لو أردت عدم حل مشكلة شكل لها لجنة، ويمكن أن نقول، فيما يخص السياق العربي، إن أردت إجهاض المطلب الديمقراطي، قرر الانتقال الديمقراطي، فمن منظور الحكام الأهم والمقصود ليس الديمقراطية، وإنما الانتقال الذي توحي الأنظمة، من خلاله، أن شيئاً يتغير، ما يعطي الانطباع لجزء من الشعب بأنها صادقة فيما تقول. لكن هذا مجرد انطباع، فضلاً عن الهوة بين تصور التسلطية السياسية وتصور الحامل الاجتماعي للمطلب الديمقراطي. فالطرف الأول يتخذه مطية لإجهاض التغيير والإصلاح وتحييد كل المطالب في هذا المجال. أما الطرف الثاني فيعتبره خطوة نحو التغيير المنشود (الديمقراطية). من هنا، يأتي الخلل في المشهد السياسي العربي، فانسداد الأفق السياسي يرجع، أيضاً، إلى معضلة الانتقال هذه، لأن طرفي المعادلة غير متفقين على المقدمات، وبالتالي، لن يتفقا على النتائج.
هكذا أصبح المؤقت دائماً، وصار الانتقال نمطاً للحكم وإدارة للشأن العام، فيما أُفرغت المعارضة أو ما تبقى منها من محتواها، لأنها أصبحت جزءاً، بشكل أو بآخر، من المنظومة القائمة، كونها أحد أعمدة الانتقال الثانوية. فهي تضفي برضاها، أو على مضض، شرعية على عملية سياسية، لا انتقال فيها إلا الاسم. فجيل كامل من العرب لم يعرف تقريباً غير "المرحلة الانتقالية" التي طال أمدها. وكأن الحكام العرب الذين يسعى بعضهم إلى الحكم مدى الحياة استحدثوا عبارة متناقضة المفردات: الانتقال على مدى الحياة. المحصلة النهائية لهذا الانتقال الذي طال أمده تأرجح الأنظمة العربية بين أنماط حكم ونماذج تسلطية فرعية، تتغير من حيث الجزء الظاهر من سلطتها، لكن مضامينها هي نفسها.
تحول الانتقال (يوصف مجازاً بالديمقراطي) إلى عملية سياسية "لرسكلة" نخبةٍ، لم تبرح الحكم قط، وإنما همشت في وقت ما (في إطار الصراع بين مختلف الأجنحة والتيارات داخل النظام الواحد)، أو وضعت في الاحتياط لاستدعائها عند الحاجة. وهذا كثيراً ما يحدث في حال الأزمات الحادة، لما يتم استدعاء وجوه قديمة، تربع بعضها على الحكم سنوات، بل عقوداً. وعليه، بدلاً من أن يكون الانتقال سيرورة سياسية، للانطلاق من نقطة للوصول بأمان إلى نقطة أخرى (هي الأحسن أو الأنسب، وليس بالضرورة الأمثل)، أصبح أداة سياسية في يد أنظمة، لتراوح مكانها، مكتفية بإعطاء الانطباع بوجود حركية حقيقة.
أما حالة الطوارئ فتعد، هي الأخرى، أحد أبرز دلالات تحول المؤقت إلى دائم، فكما تشير إليه مفردة طارئ، فالمقصود وضع غير عادي وغير دائم، يتطلب إجراءات أو قرارات استثنائية وظرفية، تنتفي الحاجة إليها، بانتفاء السبب الذي كان وراء وجودها. بمعنى أن حالة الطوارئ وضع غير مصمم لأن يدوم، لكن دولاً عربية عاشت وتعيش هذا الوضع منذ عقود، لتتحول حالة الطوارئ إلى نمط للحكم في العالم العربي، وأحد ميزات تجذر الدولة الأمنية عربياً. فحتى تونس "الانتقالية" التي يعلق عرب كثيرون أمالاً كبيرة على نجاح تجربتها الديمقراطية، لجأت، هي الأخرى، إلى "تقنية" حالة الطوارئ التي هي نقيض الانتقال الديمقراطي. فهذا الأخير يضع القطاع الأمني تدريجياً تحت وصاية مؤسسات الدولة المنتخبة ومراقبتها، أما حالة الطوارئ فتضع الدولة والمجتمع تحت وصاية القطاع الأمني الذي أذاق المجتمع الأمرّين (في حالة تونس الديمقراطية) ولا يزال (في حالة الدول العربية).
ولتبرير الانتقال إلى ما لا نهاية، يسوق الخطاب الرسمي العربي مسوغات تبريرية، قوامها التأجيل، تأجيل الديمقراطية لأجل غير مسمى بذرائع مختلفة. أدرجت آخر ذريعة ضمن سجل تأجيل الديمقراطية الربيع العربي الذي يُحمّل تبعات كل الأمور، يُحمل ما لا يطيق. لكن، لا يجب أن نغفل أن الربيع العربي، بقدر ما أحدث فزعاً في أوساط الحكام العرب، بقدر ما يجعلهم يتنفسون الصعداء بعد تطورات نسخه المجهضة /أو المتعثرة. ليصبح الربيع العربي ذريعة إضافية لتأجيل الديمقراطية، ما يعني أنه يوظف في تجديد منظومة/عقيدة المؤقت-الدائم وتحديثها.
ففيما يخص الانتقال، اعتاد الخطاب السياسي العربي على التأكيد أن البلاد تعيش مرحلة انتقالية، مآلها التحول إلى الديمقراطية. لكن، بعد عقود من الانتقال، لم تأت الديمقراطية، وكل ما حدث هو استمرار الوضع القائم. ليصبح التنائي بديلا عن التداني بين "العملية الانتقالية" و"العملية الديمقراطية". حيث عرف الانتقال، بمراحل أو بدونها، تحولاً معقداً، فبعد أن كان نظرياً وسيلة للوصول إلى غاية محددة (الديمقراطية) أصبح هدفاً في حد ذاته في جانب، ووسيلة في جانب آخر، وسيلة لإجهاض أي محاولة للتغيير أو للإصلاح.
قيل لو أردت عدم حل مشكلة شكل لها لجنة، ويمكن أن نقول، فيما يخص السياق العربي، إن أردت إجهاض المطلب الديمقراطي، قرر الانتقال الديمقراطي، فمن منظور الحكام الأهم والمقصود ليس الديمقراطية، وإنما الانتقال الذي توحي الأنظمة، من خلاله، أن شيئاً يتغير، ما يعطي الانطباع لجزء من الشعب بأنها صادقة فيما تقول. لكن هذا مجرد انطباع، فضلاً عن الهوة بين تصور التسلطية السياسية وتصور الحامل الاجتماعي للمطلب الديمقراطي. فالطرف الأول يتخذه مطية لإجهاض التغيير والإصلاح وتحييد كل المطالب في هذا المجال. أما الطرف الثاني فيعتبره خطوة نحو التغيير المنشود (الديمقراطية). من هنا، يأتي الخلل في المشهد السياسي العربي، فانسداد الأفق السياسي يرجع، أيضاً، إلى معضلة الانتقال هذه، لأن طرفي المعادلة غير متفقين على المقدمات، وبالتالي، لن يتفقا على النتائج.
هكذا أصبح المؤقت دائماً، وصار الانتقال نمطاً للحكم وإدارة للشأن العام، فيما أُفرغت المعارضة أو ما تبقى منها من محتواها، لأنها أصبحت جزءاً، بشكل أو بآخر، من المنظومة القائمة، كونها أحد أعمدة الانتقال الثانوية. فهي تضفي برضاها، أو على مضض، شرعية على عملية سياسية، لا انتقال فيها إلا الاسم. فجيل كامل من العرب لم يعرف تقريباً غير "المرحلة الانتقالية" التي طال أمدها. وكأن الحكام العرب الذين يسعى بعضهم إلى الحكم مدى الحياة استحدثوا عبارة متناقضة المفردات: الانتقال على مدى الحياة. المحصلة النهائية لهذا الانتقال الذي طال أمده تأرجح الأنظمة العربية بين أنماط حكم ونماذج تسلطية فرعية، تتغير من حيث الجزء الظاهر من سلطتها، لكن مضامينها هي نفسها.
تحول الانتقال (يوصف مجازاً بالديمقراطي) إلى عملية سياسية "لرسكلة" نخبةٍ، لم تبرح الحكم قط، وإنما همشت في وقت ما (في إطار الصراع بين مختلف الأجنحة والتيارات داخل النظام الواحد)، أو وضعت في الاحتياط لاستدعائها عند الحاجة. وهذا كثيراً ما يحدث في حال الأزمات الحادة، لما يتم استدعاء وجوه قديمة، تربع بعضها على الحكم سنوات، بل عقوداً. وعليه، بدلاً من أن يكون الانتقال سيرورة سياسية، للانطلاق من نقطة للوصول بأمان إلى نقطة أخرى (هي الأحسن أو الأنسب، وليس بالضرورة الأمثل)، أصبح أداة سياسية في يد أنظمة، لتراوح مكانها، مكتفية بإعطاء الانطباع بوجود حركية حقيقة.
أما حالة الطوارئ فتعد، هي الأخرى، أحد أبرز دلالات تحول المؤقت إلى دائم، فكما تشير إليه مفردة طارئ، فالمقصود وضع غير عادي وغير دائم، يتطلب إجراءات أو قرارات استثنائية وظرفية، تنتفي الحاجة إليها، بانتفاء السبب الذي كان وراء وجودها. بمعنى أن حالة الطوارئ وضع غير مصمم لأن يدوم، لكن دولاً عربية عاشت وتعيش هذا الوضع منذ عقود، لتتحول حالة الطوارئ إلى نمط للحكم في العالم العربي، وأحد ميزات تجذر الدولة الأمنية عربياً. فحتى تونس "الانتقالية" التي يعلق عرب كثيرون أمالاً كبيرة على نجاح تجربتها الديمقراطية، لجأت، هي الأخرى، إلى "تقنية" حالة الطوارئ التي هي نقيض الانتقال الديمقراطي. فهذا الأخير يضع القطاع الأمني تدريجياً تحت وصاية مؤسسات الدولة المنتخبة ومراقبتها، أما حالة الطوارئ فتضع الدولة والمجتمع تحت وصاية القطاع الأمني الذي أذاق المجتمع الأمرّين (في حالة تونس الديمقراطية) ولا يزال (في حالة الدول العربية).
ولتبرير الانتقال إلى ما لا نهاية، يسوق الخطاب الرسمي العربي مسوغات تبريرية، قوامها التأجيل، تأجيل الديمقراطية لأجل غير مسمى بذرائع مختلفة. أدرجت آخر ذريعة ضمن سجل تأجيل الديمقراطية الربيع العربي الذي يُحمّل تبعات كل الأمور، يُحمل ما لا يطيق. لكن، لا يجب أن نغفل أن الربيع العربي، بقدر ما أحدث فزعاً في أوساط الحكام العرب، بقدر ما يجعلهم يتنفسون الصعداء بعد تطورات نسخه المجهضة /أو المتعثرة. ليصبح الربيع العربي ذريعة إضافية لتأجيل الديمقراطية، ما يعني أنه يوظف في تجديد منظومة/عقيدة المؤقت-الدائم وتحديثها.