العرب في مهب الريح

19 سبتمبر 2019
+ الخط -
يصعب أن نتحدث اليوم عن العرب بالمفرد، فنحن نُعاين بجلاء أننا أمام بلدانٍ تتجه، في سياق التحولات الجارفة التي تعرفها، إلى مزيدٍ من ترسيخ آليات تنافرها السياسي والثقافي. وهي تنخرط في مواجهة مصائرها بآلياتٍ في التفكير والعمل، لا علاقة لها بالخيارات والتطلعات المرتبطة بأفق التعاون والتضامن والتنمية. وتكشف المتغيرات التي عرفتها أنظمتها السياسية أننا أمام عملية ذهولٍ عن المقاصد والطموحات التي تبلورت وسَادَت في الثقافة السياسية العربية في النصف الثاني من القرن الماضي. 
نُواجه اليوم عرباً بدون أفق سياسي مرسوم وواضح، وهم جَمْع متنافر مشرقاً ومغرباً، جَمْعٌ تحكمه علاقاتٌ يغلب فيها التنافس والتنابذ، ويغيب عنها التعاضد والتعاون. عربٌ لا يمتلكون اليوم القدرة على بناء مشروع في النهوض القومي، يساهم في تحقيق بَعْضِ ما تعلقت به أجيالٌ من النهضويين طوال القرنين الماضيين.
لا نجد في الراهن العربي ما يؤشّر على وجود برامج سياسية واقتصادية مشتركة، لمغالبة درجة التَّرَدِّي التي وصلت إليها أوضاعهم العامة. نُواجه اليوم عرباً ينخرطون بشكل جماعي في بناء جملة من ردود أفعالٍ يمكن أن تسعفهم بمواصلة البقاء في الهامش، وهم لا يمتلكون القوة والإرادة اللازمتين للمحافظة على كياناتهم أمام القِوَى الإقليمية والدولية التي أصبحت تمارس نفوذها بشكل واضح ومُعلن فوق أرضهم. ونستطيع أن نتحدث اليوم عن جامِع واحد يشمل مختلف الأقطار العربية. يتعلق الأمر بالنفور من مبدأ الحوار والنفور من الإصلاح، والدخول، بَدَل ذلك، في دواماتٍ من التنافس غير المفهومة وغير المحسوبة عواقبها، بَدَل رسم سيناريوهات التعاون والتكامل والتنمية بلغة العصر. ولعل تأمُّل ما يجري هنا وهناك يظهر أن الأنظمة العربية تقوم بأدوار ترتبط أساساً بمصالح قِوَى أخرى، تاركةً مختلف طموحاتها جانباً.
ومن الأمور التي تثير الدهشة والغضب، في آن، اختفاء آليات التشاوُر والعمل التي كانت تربط مجموعة من الدول العربية في تجمُّعات إقليمية، حيث لا يوجد اليوم تَجَمُّع من التجمعات 
العربية الإقليمية يُفَعِّل مواثيق عمله ومؤسساته ويحترم مواعيد عمله، وينفذ التوصيات والبرامج التي تَمَّ الاتفاق عليها. ومما زاد الأمور استفحالاً أن أغلب القوانين التي أُعدت لتنظيم آليات عمل هذه التجمعات، تَمَّت بطريقةٍ مناسبةٍ لما آلت إليه أوضاعها، وكأن الذين أعدّوها كانوا يتوقعون مصيرها.. فلا اتحاد المغرب العربي ولا مجلس التعاون الخليجي ولا مؤتمرات جامعة الدول العربية، ولا برامج التعاون الثنائي تجد طريقها نحو ما يمكن أن يساهم في تعزيز صلات الْوَصْل بينهم، في أفق بناء مشروع عربي في التنمية وفي الأمن والتعاون، ومواجهة تحدّيات عالم يتغيَّر بسرعة، ويصنع كل يوم ما يُوَسِّع المسافات بين واقعهم وما يجري أمامهم وبالقرب منهم، كما يجري أحياناً في قلب ديارهم.
نتجه، في ضوء ما أشير إليه، إلى التفكير في المقتضيات اللاَّزمة لتجاوُز حالات التراجع المخيفة التي وصلت إليها أغلب البلدان العربية، سواء منها البلدان الصانعة لفتوحات الربيع العربي، أو البلدان الخائفة من تداعياته، أو البلدان الأخرى التي تحوّلت إلى بُؤَرٍ مشتعلة، وحاملة لمختلف تناقضات المحاور الإقليمية والدولية المتربصة بها، على شاكلة ما أصبح عليه الحال اليوم في كل من سورية واليمن وليبيا.
ويمكن إضافة مآلات القضية الفلسطينية إلى ما سبق، حيث لم تعد تجمع اليوم خيارات واحدة للأنظمة العربية، يتبيَّن ذلك في صور التطبيع المباشر والمقنّع بين إسرائيل وبلدان عربية عديدة، فلم تعد القضية جامعةً لأغلب فصائلها وتنظيماتها داخل ما تبقى من الأرض الفلسطينية، ووسط فلسطينيي الشتات.. لقد انخرط العرب جميعاً في طقس واحد، يتعلق بتخريب ما تَبَقَّى من الأقطار العربية بعد الغزو الأميركي للعراق، والغزو الروسي والإيراني والتركي لسورية، ثم غزو إيران وقوات التحالف العربي والدولي التي تواصل اليوم تخريب اليمن تحت شعارات مختلفة.
يثير الاختلاط القائم في المشرق والمغرب العربيين أسئلة عديدة، في موضوع أنماط 
الاستراتيجيات التي تُرَتِّبُ أوراقه الكبرى، وكذا في أنماط الخطاب السياسي التي يُؤطرها ويصنع لها الأبعاد والتداعيات المعلنة والمضمرة، فقد أصبح الوجود العربي في مهب الريح، ويجري التطاحن اليوم على أرضه بصورةٍ غير مسبوقة، حيث تهيأ في قلب المعارك والصراعات المشتعلة خرائط جديدة، من أجل مزيد من تفتيته وتحويله إلى دويلات طوائف ومِلَل، طوائف تستعيد متخيلاً قادماً من أزمنةٍ أخرى، مُتَخَلِّيَّةً عن حلم الاندماج والدولة الوطنية، حُلُم التضامن والدولة المدنية..
لا نُقِرُّ باستحالة الديمقراطية في الراهن العربي، بل بصعوبة توطين شروطها ومقوِّماتها الأساس في الثقافة والمجتمع. كما أننا لا نستسهل إمكانية تمثل متطلباتها وتبيئتها في الحاضر العربي، ونتعلم من ثورات الربيع العربي ما يدفعنا إلى الاعتراف بعدم كفاية التخلص من الحاكم المستبد، ذلك أن جني ثمار الحرية يتطلب، بعد إسقاط الحاكم المستبد، الحرص الجماعي على عمليات تأسيس قواعد الإصلاح الديمقراطي ومؤسساته.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".