العربية في موريتانيا: صراعات وحواجز لسانية

08 مارس 2017
(من شنقيط، تصوير: ستيوارت فرديمان)
+ الخط -

في بلد يُطلق عليه بعضهم تسمية "بلد المليون شاعر"، ويعنون شعراء العربية، تظلّ اللغة الفرنسية مهيمنة على المناهج التربوية والوثائق والمراسلات الإدارية. لذا يحاول المثقفون في موريتانيا إعادة الاعتبار للغة الضاد وإطلاق دعوات لمعالجة التناقض بين رسميّتها في الدستور وواقع لا يعترف بها.

بمناسبة "اليوم الوطني للغة العربية"، نظّمت وزارة الثقافة و"المركز الموريتاني للدفاع عن اللغة العربية" مجموعة فعاليات من 1 إلى 7 آذار/ مارس الجاري، شملت ندوات وأمسيات شعرية وفنية.

في إطار التظاهرة، أقيمت الأسبوع الماضي ندوة فكرية بعنوان "اللغة العربية حاضنة العصور وحافظة الحضارة" بمشاركة عدد من الأكاديميين والباحثين من الدول المغاربية، وفيها أجمعت مداخلاتهم على ضرورة حماية اللغة العربية بالتغلّب على المعوقات التي حالت وتحول دون أخذ اللغة العربية مكانها اللائق بها، وتنمية مكتسباتها، سواء في خصائصها الذاتية، كلغة قادرة على مواكبة المعرفة، أو في الاهتمام المتزايد بهذه اللغة في الأوساط الغربية، بغض النظر عن دواعي وأهداف ذلك الاهتمام، والنظر في مستقبل هذه اللغة واستشراف آفاقها.

في كلمته، قال وزير الثقافة محمد الأمين ولد الشيخ إن "اللغة العربية ظلت واسطة العقد بين اللغات الإنسانية"، معرّجاً على كونها اعتُمدت في العصر الحديث ضمن اللغات العالمية الست التي تعمل بها الأمم المتحدة والمنظّمات التابعة لها، محتلّة المرتبة الخامسة في اللغات الأكثر استعمالاً وتداولاً، وهي عناصر تؤكد بأنها إحدى اللغات المتطوّرة ويدفعنا كناطقين بها إلى الاعتزاز وإنزالها المنزلة التي تستحقّ في الحياة العامة وفي دوائر العمل.

من جهته، اعتبر الباحث الموريتاني محمد ولد قاري في محاضرة بعنوان "التعدّد اللساني وانعكاسه على اللغة العربية"، أن هناك عدّة عوامل تتشابك وتتفاعل في التمكين للغة وحمايتها، أو تدهور وضعها، فانطفاءِ جذوتها، فموتِها النهائي، أهم هذه العوامل بحسب ولد قاري هو السلوك اللغوي للمتحدّثين بها ونظرتهم إليها ثم فاعليتها في الساحة الوظيفية خصوصاً في محيط يطبعه التعدّد اللغوي، إضافة إلى وجود مقوّمات اللغة البنيوية الداخلية، من حيث الغنى أو الفقر المعجمي وقدرتها على مواكبة تطوّر المعرفة.

حاول المحاضر ضبط مفهوم التعدّد اللساني، ثم عدّد أوجه انعكاس هذا التعدّد في البلدان العربية عموماً، والمغاربية خصوصاً، على اللغة العربية الفصيحة؛ متخذاً من "اللغة الهجينة" في مواقع التواصل الاجتماعي نموذجاً لذلك، ثم اختتم بدور السياسة اللغوية الناجعة في تدبير وترشيد التعدّد اللساني لمحاولة استغلال الظاهرة إيجابياً.

يشير هنا ولد قاري إلى أن اللغات الأوروبية، وبعض اللغات الآسيوية الأساسية كاليابانية والصينية الحديثة والهندية، تعاملت مع التعدّد اللساني كأمر واقع وبنت عليه سياستها اللغوية حتى لا تتعرّض للتهميش والإقصاء من القرية التكنولوجية والاقتصادية الكونية، مع مراعاة الهوية الوطنية، في ما لم تحسّن لغات أخرى التأقلم مع هذا التعدّد، واكتفت باستقباله قسرياً؛ من دون منهجة وتخطيط، تسمح باستثمار هذا المعطى اللساني، أو على الأقل عدم التضرّر منه، فكان التعدّد نقمة على هذه البلدان، حيث أربك واقعها اللساني، وأسهم في تدهور نمائها اللغوي.

في محاضرة بعنوان "واقع اللغة العربية في المغرب العربي.. أي تحديات؟"، أوضح الباحث المغربي عطاء الله الأزمي أن بلدان المغرب العربي تواجه تحدّيات كبيرة ضمن عولمة متوحشة كرّست استمرار حضور اللسان الأجنبي (الفرنكفوني في الحالة المغاربية) في التبادلات اللغوية.

تعاني البلدان المغاربية بحسب الأزمي من إرث ثقيل متراكم منذ الفترة الاستعمارية، موضّحاً أنه توجد نماذج كثيرة لبلدان فقدت لغتها وحضارتها ليس فقط بالقوة بل أيضاً بالخضوع والكسل، وحذّر من سياسات الدول المغاربية التي تكرّس هذا الوضع في الإدارات والإعلام والمدرسة والجامعة.

هنا، تحدّث الأزمي عن دور "طابور خامس" من المثقّفين الفرنكفونيين الذين يتربّصون باللغة العربية فيدّعون أنها تمثّل عائقاً تربوياً وتعليمياً، ليؤكّد على أهمية دور المجتمع المدني للتصدّي لهذا الوضع في ظلّ تخاذل المسؤولين، ويخلص إلى أن إنقاذ اللغة العربية يمرّ من سياسات تعليمية تكون فيها الضاد المكوّن الأساسي للهوية الثقافية والحضارية العربية.

"اللغة العربية في مخيال المهاجرين العرب والمسلمين في أوروبا، ملامح المستقبل" هو عنوان محاضرة الباحث التونسي بشير العبيدي الذي أشار إلى تخوّفات أوروبية من انتشار اللغة العربية، وهي تخوّفات تتداخل فيها عوامل حضارية ودينية وديمغرافية، ذلك أن أعداد المسلمين في القارة العجوز بات بعضهم يعتبرها مهدّدة لهوية أوروبا سواء على مستوى نمط العيش أو حتى على مستوى اللغة وهي مخاوف يضخّمها الإعلام ما يُدخل اللغة العربية في خضم الصراع السياسي. هنا يؤكد العبيدي على ضرورة تفكير عربي في مستقبل العربية في أوروبا، مشيراً إلى أهمية التركيز على اللغة العربية الفصحى لأن اللهجات غير قادرة على منافسة اللغات الكبرى.

المحاضرة الأخيرة ألقاها أستاذ اللسانيات في جامعة نواكشوط المختار الجيلاني، وحملت عنوان "العولمة اللغوية وأثرها على العربية"، وفيها اعتبر "أن التعدّدية اللغوية تتعارض مع الانصهار الثقافي الذي يصب في صالح الوحدة الوطنية ومع ذلك فإنها مطلب ديمقراطي مشروع ولا يحق لأحد أن يقف في وجهه".

وأضاف أن معظم البلدان الديمقراطية نجحت في حسم المسألة اللغوية، بسنّ قوانين ووضع ترتيبات خاصة لاستخدام اللغات الوطنية في التعليم والإدارة والدوائر الرسمية للدولة، على نحو يراعي التوازنات الإثنية والطابع الثقافي المشترك.

يخلص الجيلاني إلى أن سياسة فرض اللغة الأجنبية كحلّ للمسألة اللغوية، هي سياسة غير ديمقراطية وغير مشروعة إذ تقوم على علاج قسري يؤدّي إلى موت رحيم لمرضى عانوا طويلاً من مضاعفات قطع حبل اللغة السرّي.

المساهمون