العراق.. للمشهد وجه آخر

01 اغسطس 2018
+ الخط -
سمع العراقيون، في خطبة الجمعة المنصرمة، من المرجع الشيعي السيد السيستاني، كلاما جديدا معدا بعناية، حذّر فيه رجال الحكم من تداعيات منتظرة، فيما لو لم تتم الاستجابة لمطالب المتظاهرين، "عندئذ سيكون للمشهد (الماثل) وجه آخر، نندم عليه بعد فوات الأوان"، وقد وضع ما يشبه خريطة طريق للمرحلة المقبلة، لخص خطوطها في التعجيل بتشكيل حكومةٍ برئيس حازم وقوي، يحقق مطالب المواطنين بصورة عاجلة، ويشن حربا على الفاسدين. وإذ كان كلام السيستاني كالعادة "حمّال أوجه"، وهي الحرفة التي يتقنها الوعاظ أكثر من غيرهم، فقد رأى فيه بعض شباب الانتفاضة دعما لمطالبهم ومساندة لهم، في وقتٍ رأى فيه رجال الحكم سعيا مشكورا لبعث الحياة في "العملية السياسية" التي دخلت غرفة العناية الفائقة، وأوشكت على الموت، وحافزا لهم على الإمعان في قمع التظاهرات، ومواجهتها بقسوة، واعتقال ناشطين آخرين وتعريضهم للتعنيف، وإلزامهم بكتابة تعهداتٍ بعدم المشاركة في أي حراكٍ أو تظاهرةٍ مستقبلا. وذلك كله تحت غطاء الادعاء بالاستجابة لمطالبهم في إصلاح حال الخدمات المقدمة: توفير ماء صالح للشرب، وساعات كهرباء أكثر، ورصد أموال كافية لتشغيل شباب عاطلين، والوعد بمحاسبة الفاسدين، والالتفاف على مطلب التغيير الشامل الذي قال مسؤولون إنه "يشكل انقلابا على الدستور، لأننا نعيش زمن الديمقراطية وصناديق الاقتراع وإرادة الشعب"، وقد التقط مقتدى الصدر، زعيم تحالف "سائرون"، الذي يضم أنصاره إلى جانب الشيوعيين، التقط الخيط من طرفه الآخر، ليوجه رسالة تحذير: "أصلح الحكم فصوت الشعب يسمع.. كفاكم قمعا للمتظاهرين"، وعدّ مراقبون هذا ركوبا لموجة الاحتجاجات الشعبية، ومحاولة للتقريب بين منطقي رجال الحكم وشباب الانتفاضة.
وتكشف القراءة المتمعنة لكلام السيستاني عن محاولة محمومة لإعادة ضبط قواعد اللعبة، وقواعد الاشتباك، على نحوٍ لا يسمح بإجراء أي تحول حقيقي في المشهد الماثل، وبالتالي قطع الطريق على الذين يسعون إلى التأسيس لعملية سياسية وطنية عابرة للطوائف، وفي الكلام أيضا تصميمٌ لا يقبل الشك على ترميم تماثيل الملح، وإعادة وضعها على الطاولة!
وكما هو متوقع، انعكست رسالة السيستاني على تظاهرة الجمعة ذاتها التي أرادوها مليونية، 
ترفع شعار التغيير، لكن الذين حضروا إلى ساحة التحرير لم يتعدّوا بضع مئات، ولفت النظر غياب ما تسمى "منظمات المجتمع المدني" التي يفترض أن تكون السباقة إلى التظاهر، لكنها، وهي العاملة تحت عباءة أحزاب السلطة، لم تشأ أن تخرج عما هو مرسوم لها، ووجد مسؤولون رسميون الفرصة، عبر هذه التداعيات، للإيحاء بأن الحراك أخذ بالانحسار والتلاشي. ولهذا الإخفاق أسبابه المفهومة، حيث إن الظروف المحيطة لا تسمح بتطبيق أسلوب "الصدمات"، فعلى الرغم من الموقف الهش للأحزاب الإسلامية الحاكمة، إلا أنها ليست في وارد التخلي عن السلطة والقرار والمال بالسهولة التي يتصوّرها بعضهم، ثم إن القوى الخارجية المهيمنة على المشهد لا تسمح بإجراء تغييرات جذرية في قواعد اللعبة في الحال الحاضر، لأكثر من سبب، وخصوصا أن الوضع الإقليمي تشوبه جملة تشابكات حاكمة، تحول دون ذلك، وأيضا لأن شباب الانتفاضة لم يتمكّنوا بعد من الوحدة والتوافق على هدف التغيير الناجز، كما لم تبرز بعد قيادة ديناميكية على قدرٍ عالٍ من الوعي، يسمح لها بقراءة ما يحيط بها، وما يدور من حولها. وقد يشكل ذلك "عقب أخيل" للانتفاضة، يسمح للخصوم بدفعها إلى الانحسار والتلاشي، في الحال الحاضر على الأقل، وهذا ما يعمل له رجال الحكم ورجال المرجعية معا!
وفي ظل كل هذه العوامل الضاغطة، قد تتحول الانتفاضة إلى "طقس" موسمي، يخبو حينا ويظهر حينا آخر، أو تختزل حراكها في هذه المدينة أو تلك، وهو ما يجب الانتباه إليه، والتمسك بتجاوز الشعور باليأس الذي قد يدفع إلى التراجع، وثمّة ما هو مطلوب إدراكه أيضا في أن إنجاز الهدف المركزي لن يتم إلا في إطار ارتطام الانتفاضة مع "العملية السياسية" الطائفية، الماثلة نفسها كي يحصل تكسّرها وتشظيها، والانتقال عمليا إلى "الوجه الآخر للمشهد" الذي حذّرت المرجعية من حدوثه، وتوعدت رجال الحكم بأنهم سوف يندمون في حال حصوله، وإلا فإن الحراك الشعبي سوف يظل يدور على نفسه، من دون أن يحقق نتيجة إيجابية، وقد يتحول مع الزمن إلى ظاهرة "سيزيفية" معوقة، لا تفضي إلى شيء.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"