عانت مصر خلال معظم فترات العقود الماضية، وبصفة خاصة خلال السنوات الثماني الأخيرة، من عجز كبير في الميزان التجاري، لم تتمكن من سدّه البنود الأخرى في ميزان المدفوعات، من سياحة واستثمار أجنبي وقناة السويس وتحويلات العاملين في الخارج، ما استنزف جزءاً كبيراً من احتياطيات النقد الأجنبي للبلاد، لم نتمكن من تعويضه إلا عن طريق الاقتراض الخارجي.
وفي عام 2010، الذي شهد أعلى مستوى لإيرادات السياحة في تاريخ مصر، والذي سبقته خمسة أعوام شهدت تراكماً إيجابياً للاستثمار الأجنبي، المباشر وغير المباشر، الوارد إلى مصر، مع مستويات معقولة من إيرادات قناة السويس وتحويلات العاملين بالخارج، ارتفعت احتياطيات النقد الأجنبي إلى مستويات تاريخية وقتها، بلغت حوالي 36 مليار دولار.
بعد ذلك، قامت ثورة يناير/كانون الثاني 2011، فكان طبيعياً أن يسارع الاستثمار الأجنبي بالخروج، ساحباً من احتياطيات النقد الأجنبي لدينا، حتى وصلت إلى أدنى مستوى لها، حوالي 13 مليار دولار، بحلول منتصف عام 2013.
بعد ذلك، بدأنا رحلة بناء احتياطي النقد الأجنبي من جديد، ولم نستطع الوصول إلى مستويات 2010، إلا مع نهاية عام 2017. لكن المشكلة الأساسية أننا في رحلة بناء هذا الاحتياطي، المهول بمعاييرنا والهزيل بالمعايير الدولية، لم نلحظ نمو كائن سرطاني ضخم اسمه الدين الخارجي.
اقــرأ أيضاً
وفي الفترة من يونيو/ حزيران 2013 وحتى نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2017، استطعنا بالفعل إضافة ما يقرب من 25 مليار دولار إلى احتياطي النقد الأجنبي لدينا، إلا أنه أتى على حساب ارتفاع الدين الخارجي، خلال الفترة نفسها، بأكثر من أربعين مليار دولار.
لم يكن تراكُم الدين الخارجي، وتجاوُز الزيادة فيه الزيادة المحققة في احتياطي النقد الأجنبي مفاجأة، وإنما كانا نتيجة طبيعية لعدم علاج مرض عجز الميزان التجاري، وتركيز كل الجهود على علاج الأعراض المصاحبة له، والتي تمثلت في انخفاض احتياطي النقد الأجنبي.
فاندفعنا نحو الاقتراض لتعويض ما يخرج من الاحتياطي، وفي الوقت نفسه لهثنا وراء مشروعات ضخمة وصفقات استيراد سلاح، مما لم يكن له أولوية أبداً في هذه المرحلة العصيبة التي يمر بها اقتصاد البلاد، فاستمر عجز الميزان التجاري في الارتفاع، وساءت الأمور شهراً بعد شهر.
مشكلة عجز الميزان التجاري، بما تمثله من ضغط على احتياطيات النقد الأجنبي، هي سبب كل مشاكل المصريين في الوقت الحالي. فقد كانت هي العامل الأول المتسبب في الضعف المستمر في قيمة الجنيه المصري، ومن ثم الاضطرار إلى تعويمه وفقدانه حوالي 60% من قيمته، وهو ما تسبب بدوره في انخفاض مستويات معيشة أغلب المصريين.
كما أن العجز التجاري هو الذي تسبب في توجهنا نحو الاقتراض من صندوق النقد الدولي، والرضوخ لكل "نصائحه" الخاصة بإلغاء الدعم على الوقود والماء والكهرباء والمواصلات ورغيف العيش.
وأخيراً، سيتسبب عجز الميزان التجاري المصري في بيع حصة الحكومة المصرية في العديد من الشركات، وهو ما سيؤدي إلى فقدان الآلاف وظائفهم، مع توجه مشتري تلك الشركات إلى إعادة هيكلتها.
الحل إذاً يكمن في التركيز على علاج العجز في الميزان التجاري، وسد الفجوة بين ما نصدره وما نستورده، بل والعمل على تحقيق فائض يمنع استنزاف الاحتياطي، ويساعد في سداد ما تم اقتراضه في الفترات الماضية.
اقــرأ أيضاً
عندما وصل الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وجد أن بلده يعاني من عجز في الميزان التجاري يقدر بحوالي 800 مليار دولار، مثلت أقل من 4% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، فتعهد بالقضاء على هذا العجز، وشن حرباً تجارية على الدول التي يستورد منها، وأغلبهم حلفاء سياسيون، ومنهم من حاربت قواته في صفوف الولايات المتحدة في العديد من الحروب، من أجل وضع حد لهذا النزيف والقضاء على عجز الميزان التجاري.
ولما كنا نعلم جميعاً أن جماعات المصالح والمستفيدين من استمرار استنزاف موارد مصر، باستيراد كل ما يلزم وما لا يلزم من العالم الخارجي، هم أقوى كثيراً من أي مواجهات يمكن أن تدخلها الحكومة معهم من أجل تقييد الاستيراد، فيجب العمل على زيادة الطرف الآخر من المعادلة، وأعني به التصدير، وهو ما يتطلب توجيه كافة الجهود نحو زيادة التصنيع، في أي مجالات نستطيع التصنيع فيها، من أجل زيادة الصادرات.
يرى المحللون والمؤرخون أن التصنيع هو الأساس الذي تستند إليه القوى العظمى في السيطرة على العالم، وأن أفضل إنجاز استراتيجي قامت به الدول الغنية على مدار القرون السابقة، من وقت تفوق الإنكليز في القرن التاسع عشر، إلى ازدهار الولايات المتحدة وألمانيا واليابان والاتحاد السوفييتي في القرن العشرين، إلى الدول الصناعية الحديثة كتايوان وكوريا ثم الصين، كان خلق قطاع صناعي عالي الكفاءة، يساعد على تكوين قوة الدولة وتنمية ثرواتها.
فالقطاع الصناعي هو العنصر الأساسي لتحقيق النمو الاقتصادي، ومن دون قطاع صناعي قوي لا يمكن تحقيق نمو اقتصادي مستدام. ولو لم تعرف البشرية معدات تصنيع أشباه الموصلات، على سبيل المثل، لما عرفنا الطفرات التي حدثت في حياتنا مع اكتشاف الانترنت وتصنيع الهواتف الذكية وما شابهها، وغني عن البيان بالطبع تأثير تلك الابتكارات في معدلات النمو الاقتصادي العالمي خلال العقود الأخيرة.
الاتجاه نحو التصنيع في الوقت الحالي أصبح حتمياً، وإذا كانت المشروعات العقارية وبناء المدن وشق الطرق توجد فرص عمل وتضيف إلى الإنتاج الاقتصادي، فإن غالبية تلك الإسهامات تكون مؤقتة، بينما تكون إسهامات التصنيع دائمة الإضافة إلى الناتج المحلي وإلى فرص العمل المتاحة، ناهيك بما توفره من فرص تصديرية توفر العملة الأجنبية وتدعم اقتصاد البلاد.
بناء المصانع وإدخال التكنولوجيا الحديثة هما أفضل ما يمكننا تقديمه للأجيال الحالية والقادمة، بينما بيع الأراضي والعقارات يسحب من أرصدتهم ويساهم في ترحيل عبء ما اقترضناه للأبناء والأحفاد.
وفي عام 2010، الذي شهد أعلى مستوى لإيرادات السياحة في تاريخ مصر، والذي سبقته خمسة أعوام شهدت تراكماً إيجابياً للاستثمار الأجنبي، المباشر وغير المباشر، الوارد إلى مصر، مع مستويات معقولة من إيرادات قناة السويس وتحويلات العاملين بالخارج، ارتفعت احتياطيات النقد الأجنبي إلى مستويات تاريخية وقتها، بلغت حوالي 36 مليار دولار.
بعد ذلك، قامت ثورة يناير/كانون الثاني 2011، فكان طبيعياً أن يسارع الاستثمار الأجنبي بالخروج، ساحباً من احتياطيات النقد الأجنبي لدينا، حتى وصلت إلى أدنى مستوى لها، حوالي 13 مليار دولار، بحلول منتصف عام 2013.
بعد ذلك، بدأنا رحلة بناء احتياطي النقد الأجنبي من جديد، ولم نستطع الوصول إلى مستويات 2010، إلا مع نهاية عام 2017. لكن المشكلة الأساسية أننا في رحلة بناء هذا الاحتياطي، المهول بمعاييرنا والهزيل بالمعايير الدولية، لم نلحظ نمو كائن سرطاني ضخم اسمه الدين الخارجي.
لم يكن تراكُم الدين الخارجي، وتجاوُز الزيادة فيه الزيادة المحققة في احتياطي النقد الأجنبي مفاجأة، وإنما كانا نتيجة طبيعية لعدم علاج مرض عجز الميزان التجاري، وتركيز كل الجهود على علاج الأعراض المصاحبة له، والتي تمثلت في انخفاض احتياطي النقد الأجنبي.
فاندفعنا نحو الاقتراض لتعويض ما يخرج من الاحتياطي، وفي الوقت نفسه لهثنا وراء مشروعات ضخمة وصفقات استيراد سلاح، مما لم يكن له أولوية أبداً في هذه المرحلة العصيبة التي يمر بها اقتصاد البلاد، فاستمر عجز الميزان التجاري في الارتفاع، وساءت الأمور شهراً بعد شهر.
مشكلة عجز الميزان التجاري، بما تمثله من ضغط على احتياطيات النقد الأجنبي، هي سبب كل مشاكل المصريين في الوقت الحالي. فقد كانت هي العامل الأول المتسبب في الضعف المستمر في قيمة الجنيه المصري، ومن ثم الاضطرار إلى تعويمه وفقدانه حوالي 60% من قيمته، وهو ما تسبب بدوره في انخفاض مستويات معيشة أغلب المصريين.
كما أن العجز التجاري هو الذي تسبب في توجهنا نحو الاقتراض من صندوق النقد الدولي، والرضوخ لكل "نصائحه" الخاصة بإلغاء الدعم على الوقود والماء والكهرباء والمواصلات ورغيف العيش.
وأخيراً، سيتسبب عجز الميزان التجاري المصري في بيع حصة الحكومة المصرية في العديد من الشركات، وهو ما سيؤدي إلى فقدان الآلاف وظائفهم، مع توجه مشتري تلك الشركات إلى إعادة هيكلتها.
الحل إذاً يكمن في التركيز على علاج العجز في الميزان التجاري، وسد الفجوة بين ما نصدره وما نستورده، بل والعمل على تحقيق فائض يمنع استنزاف الاحتياطي، ويساعد في سداد ما تم اقتراضه في الفترات الماضية.
ولما كنا نعلم جميعاً أن جماعات المصالح والمستفيدين من استمرار استنزاف موارد مصر، باستيراد كل ما يلزم وما لا يلزم من العالم الخارجي، هم أقوى كثيراً من أي مواجهات يمكن أن تدخلها الحكومة معهم من أجل تقييد الاستيراد، فيجب العمل على زيادة الطرف الآخر من المعادلة، وأعني به التصدير، وهو ما يتطلب توجيه كافة الجهود نحو زيادة التصنيع، في أي مجالات نستطيع التصنيع فيها، من أجل زيادة الصادرات.
يرى المحللون والمؤرخون أن التصنيع هو الأساس الذي تستند إليه القوى العظمى في السيطرة على العالم، وأن أفضل إنجاز استراتيجي قامت به الدول الغنية على مدار القرون السابقة، من وقت تفوق الإنكليز في القرن التاسع عشر، إلى ازدهار الولايات المتحدة وألمانيا واليابان والاتحاد السوفييتي في القرن العشرين، إلى الدول الصناعية الحديثة كتايوان وكوريا ثم الصين، كان خلق قطاع صناعي عالي الكفاءة، يساعد على تكوين قوة الدولة وتنمية ثرواتها.
فالقطاع الصناعي هو العنصر الأساسي لتحقيق النمو الاقتصادي، ومن دون قطاع صناعي قوي لا يمكن تحقيق نمو اقتصادي مستدام. ولو لم تعرف البشرية معدات تصنيع أشباه الموصلات، على سبيل المثل، لما عرفنا الطفرات التي حدثت في حياتنا مع اكتشاف الانترنت وتصنيع الهواتف الذكية وما شابهها، وغني عن البيان بالطبع تأثير تلك الابتكارات في معدلات النمو الاقتصادي العالمي خلال العقود الأخيرة.
الاتجاه نحو التصنيع في الوقت الحالي أصبح حتمياً، وإذا كانت المشروعات العقارية وبناء المدن وشق الطرق توجد فرص عمل وتضيف إلى الإنتاج الاقتصادي، فإن غالبية تلك الإسهامات تكون مؤقتة، بينما تكون إسهامات التصنيع دائمة الإضافة إلى الناتج المحلي وإلى فرص العمل المتاحة، ناهيك بما توفره من فرص تصديرية توفر العملة الأجنبية وتدعم اقتصاد البلاد.
بناء المصانع وإدخال التكنولوجيا الحديثة هما أفضل ما يمكننا تقديمه للأجيال الحالية والقادمة، بينما بيع الأراضي والعقارات يسحب من أرصدتهم ويساهم في ترحيل عبء ما اقترضناه للأبناء والأحفاد.