العالم في عيون "الأطلسي"

18 مايو 2015

واضح أن الأطلسي لا يتحرك إزاء المشكلات الإقليمية (Getty)

+ الخط -
ليس من الواضح، على وجه الدقة، من الذي اختار أغنية "نحن العالم"، خلفية موسيقية في العشاء الرسمي لاجتماعات وزراء خارجية حلف الأطلسي التي عقدت في أنطاليا الخميس الماضي. ربما كانت الدولة المضيفة تركيا، وربما كانت إدارة العلاقات العامة في الحلف، أو كلاهما معاً. لكن المؤكد أن بوناً شاسعاً بدا واضحاً بين رمزية شدو وزراء خارجية دول حلف الناتو أغنية "نحن العالم"، وهزالة ما انتهت إليه اجتماعات الوزراء من نتائج. في الأولى، يبعث الوزراء رسالة إلى العالم بأن همومه ومشكلاته وأزماته هي شغل الناتو الشاغل. وفي الثانية، بدا جلياً أن "الناتو" غير مستعد للانخراط بشكل واسع في مواجهة الأزمات والصراعات الضاربة في أنحاء مختلفة من الأرض. بما فيها التي تمثل تهديداً مباشراً لدول الحلف، مثل الأزمة الأوكرانية. 
يعكس استدعاء تلك الأغنية الشهيرة (ظهرت عام 1985 من أجل المجاعات في أفريقيا) محاولة الأطلسي إظهار اهتمامه وتعاطفه مع العالم ومشكلاته، غير أن الطريقة الاحتفالية لصعود وزراء خارجية الحلف إلى المسرح، والسعادة التي كست وجوههم في أثناء أداء الأغنية، لا تعبران عن ذلك المعنى التكافلي الإيجابي، بقدر ما تحمل معاني النشوة والاغترار بقوة الحلف من جانب، والنرجسية التي تجعل أصحابه يقولون إنهم هم العالم.. كأن العالم هم فقط دون غيرهم.
كان هذا التفسير سيبدو مبالغاً فيه وتعسفياً، لو أن وزراء الأطلسي أرسلوا إلى العالم إشارات مغايرة في اجتماعاتهم. لكن، لم تصدر عن الاجتماعات خطوة واحدة عملية باتجاه حل أي من المشكلات والأزمات المتفشية في أنحاء مختلفة من العالم. فقد ناقش وزراء "الناتو" في أنطاليا ملفات أوكرانيا وسورية وداعش وأفغانستان. وبشكل مباشر ومن دون أي مواربة، أعلن وزراء "الناتو" أن الحلف "ليس الجهة المسؤولة" عن إٌقامة منطقة آمنة في سورية، وليس طرفاً في العمليات العسكرية الجارية ضد "داعش". على الرغم من ذلك، حرص الوزراء على التمييز والفصل بين الملفين، ويعطي أولوية لمواجهة داعش، ثم الالتفات إلى الملف السوري المعقد لاحقاً. غير أن هذا الترتيب وذلك الفصل يظلان محصورين في النطاق النظري الذي لا يقدم ولا يؤخر كثيراً، فالحلف ليس منخرطاً في التعامل الفعلي مع أي من الملفين. ولم يؤثر في ذلك الموقف أن تركيا التي استضافت الاجتماع الوزاري تختلف مع تلك الرؤية، سواء بالربط بين الملفين، أو باعتبار الأزمة السورية هي الأصل، ومن ثم هي الأجدر بالتعاطي أولوية قصوى.
الملف الوحيد الذي اهتم به حلف الأطلسي في أنطاليا بشكل جاد وعملي هو العلاقة المتوترة مع روسيا، والتهديدات التي تمثلها تحركات موسكو في المجال الحيوي لها، ذلك الفضاء "السوفييتي". حيث عمد "الناتو" إلى إرسال إشارات تصعيد وتهديد للدب الروسي. وعلى الرغم من أن الخطوات الفعلية جاءت أقل من مستوى التصعيد الخطابي، إلا أنه يظل الملف الوحيد الذي لم يتجاهله "الناتو" قولاً وفعلاً. أولاً بلسان أمينه العام ينس شتولتنبرج الذي قال "نحن أقوى حلف عسكري في العالم"، لكن، أيضاً بالاتجاه إلى مضاعفة حجم قواته للتدخل السريع، وتوسيع الوجود الجوي والبحري على تخومه الشرقية. كما ينتظر قريباً أن ينشر الحلف لواءً عسكرياً في دول البلطيق الثلاث (ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا).
هكذا لم يعد خافياً أن الأطلسي، الحلف العسكري الأقوى بالفعل في العالم، لا يتحرك ولا يشعر بالخطر إزاء المشكلات والأزمات الإقليمية، ما لم تنذر بامتداد أخطارها إلى الدول الأعضاء في الحلف، أو تهديد مصالحها، كما الحال بالنسبة للأزمة في أوكرانيا التي تهدد شرق أوروبا. أما الغناء لهموم بقية العالم ومشكلاته، فمغزاه الحقيقي أن "الناتو" يغني على العالم، وليس من أجله.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.