شاركت في الثلاثين من يونيو وما صحبها وما قبلها وما بعدها من أحداث، من موقع الصحافي الميداني، بحكم عملي مراسلاً تلفزيونياً، أتفهم لحد بعيد الأسباب التي اقتادت جماهير عريضة للنزول بهذا الشكل الهادر للمطالبة برحيل مرسي، وهي المحشودة -لعام أو يزيد- حشداً بعض دافعه صادق وكثيره كاذب، لهزّ الأرض هزاً من تحت قدميه.
هي لحظة اجتمع فيها الكل على واحد (بالمعنى السياسي)، والإجماع على الرفض، لم يكن أبداً إجماعاً على أسباب هذا الرفض أو منطلقاته. بعض الرافضين لمرسي نزلوا يهدفون الضغط عليه لقبول انتخابات مبكرة، تمكن لمسار جديد للثورة، حسب ظنهم، وكثير منهم نزلوا يهدفون القضاء على الثورة، وعلى أهم مخرجاتها السياسية أي الديمقراطية.
اشتبكت أيدي هؤلاء في أيدي أولئك، ولكل وجهة هو موليها، ينتظر البعض الأول بمثالية تراجع مرسي، في حين يتيقن الكثير الثاني عدم تراجعه بعد إيهامه بالمساندة.
رفض مرسي إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، جاء الثالث من يوليو، جرى ما جرى، بدأت اعتصامات ميداني رابعة والنهضة، انسد أفق الحل السياسي مع تعنت الطرفين، قادة الإخوان لا يرون فيما جرى سوى انقلاب عسكري، في محاولة لغسل كل خطأ أو مسؤولية عليهم قبله، في حين اتخذت السلطة الجديدة أكذوبة الحرب على الإرهاب شعاراً لمواجهة الرافضين لخارطة الطريق الجديدة.
الانقلاب في مواجهة الإرهاب، هكذا لخص كل طرف باستسهال القصة بكاملها، ويتناسى باقي أجزائها، ليتمكن من حشد الأنصار.
حانت اللحظة المشؤومة في الرابع عشر من أغسطس عام 2013، واحدة من أسوأ اللحظات في تاريخ مصر، بل لا نبالغ إن قلنا في تاريخ الإنسانية، ليس لأن الآلاف قتلوا فحسب، بل لأنهم يقتلون ويحرقون ويدهسون والمجتمع يصفق في غيبة تامة لتأنيب الضمير. لحظات بائسة ما أشد بؤسها، وما أصعب وطأتها على النفوس الحرة.
المجزرة المذبحة سمِّها ما شئت، هي قتل للآلاف على غير أحكام القانون، سبقتها رغبة أكيدة في عدم الوصول لحل سياسي، كما صرح من بعد الدكتور البرادعي نائب الرئيس حينها. "هي أخطر حوادث القتل الجماعي غير المشروع في التاريخ المصري الحديث" هكذا وصف تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش المذبحة.
عداد القتلى يتصاعد ومأساة ذويهم لا تحتمل، وبدأت العودة، لم يستطع البعض الكتم على أنفاس ضميره لهذا الحد، فأراد أن يغسل يديه من الدماء، وأن يبرئ ساحته من الجريمة، منهم سياسيون كالبرادعي وأبو الفتوح وخالد علي، وكتاب كبلال فضل، يساريون كخالد داود وإبراهيم العيسوي، ليبراليون كالدكتور حمزاوي والنجار، وحقوقيون كجمال عيد، والأمثلة هنا ليست أبداً على سبيل الحصر.
يقترب الثلاثون من يونيو في ذكراه الثانية، وقائمة المتراجعين تتسع لتشمل آخرين دعوا له أو شاركوا فيه أو نظموه أو انضموا تحت لوائه، منهم المشهور ومنهم المغمور، منهم المبكرون ومنهم المتأخرون، منهم من تراجع سراً ومنهم من جهر به.
لكن هذا الاعتراف بالخطأ الذي من المفروض أن يكون فضيلة، يواجه بحملة تشكيك وتشويه مستمرة وانتقاص من أي فضيلة له، فالإخوان وضمن حزمة مغالطات أخرى يعتبرون كل من شارك في الثلاثين من يونيو مسؤولاً عن كل الدماء التي سالت بعده وتسيل حتى اليوم، وهو أمر ليس صحيحاً عقلاً ولا منطقاً.
فلو كان المشاركون في الثلاثين من يونيو مسؤولين عن هذه الدماء قيراطاً، لكان قادة الإخوان مسؤولين عنها أربعاً وعشرين، بدفعهم هؤلاء الشباب كوقود في معركة محسومة خسارتها، لأنها اتخذت من عودة مرسي شعاراً لها في الوقت الضائع.
لكنك إن واجهت أحداً من الإخوان بهذه المسؤولية يرد عليك فوراً بأنهم لم يكونوا يعلموا أن ما حدث سيحدث، أو أن الأمور ستتطور لهذا الحد الذي يقتل معه الآلاف. حسناً .. إن كان أنتم ومن موقع السلطة التي كنتم فيها لم تتوقعوا هذا؟ فلماذا تظنون أن من شارك في الثلاثين من يونيو كان يتوقعه؟ تلك مغالطة كبرى.
الثلاثون من يونيو كان ثورة الدولة على الثورة، والإخوان في ذلك الوقت كانوا السلطة –ولو شكلياً- وصحيح أنها سلطة من مخرجات الثورة، لكنها وصلت لحالة وحدوية أبعدتها عن باقي شركاء الثورة، ودون خوض في أسباب ذلك هنا، كانت النتيجة أن جمع الثلاثون من يونيو بعض شركاء الثورة مع كل الثورة المضادة.
ليس صحيحاً أن من نزل الثلاثين من يونيو كان يريد هدم الدين أو ضد الإسلام، الثلاثون من يونيو جزء من عملية سياسية، تتداخلت فيها موازين قوة ومصالح مادية وطبقية، واستهدفت نزع السلطة من الإخوان، ودحض أفكارهم، في هذا السياق لنجاح المهمة طبعاً.
الإخوان كانوا يرتدون ثوب الحاكم حينها ومن حق المحكومين أن يرفضوك أو يقيلوك، أنت لست ملكاً هبط من السماء. القاعدة الأصيلة أن أي مطلب جماهيري هو مطلب مشروع، فحق الجماهير أصيل في أن تطلب ما تشاء، وقت تشاء، كيف تشاء، وفق قواعد سياسية واضحة طبعاً، لكن لأن المجلس العسكري بنى عملية سياسية تجاوزت استحقاقات الثورة وساعده الإخوان في ذلك بقوة، انهارت هذه العملية بسهولة لأنها بنيت فوق رمال متحركة.
أخطأ الإخوان في حق الثورة، لكنهم منذ الثلاثين من يونيو أكثر من يدفعون الثمن، والكل يدفع معهم، قتلاً واعتقالاً ومطاردة وانسداداً في الحرية والعدالة والكرامة.
لو كان لي أن أقدم للإخوان نصحاً لقلت: عليكم أن تقيموا مواقف شركائكم من موقعهم يوم الرابع عشر من أغسطس حيث الجريمة، لا من موقعهم يوم الثلاثين من يونيو حيث السياسة، الثلاثون من يونيو خلاف سياسي، والرابع عشر من أغسطس خلاف إنساني.
الثلاثون من يونيو هو ضمن حزمة حسابات السياسة التي فيها حاكم ومحكوم وخضوع للمتغير، الرابع عشر من أغسطس ضمن حزمة حسابات الإنسانية التي فيها القتل جريمة، حيث الخضوع للثابت القيمي والأخلاقي الذي لا يقبل المقايضة.
(مصر)
هي لحظة اجتمع فيها الكل على واحد (بالمعنى السياسي)، والإجماع على الرفض، لم يكن أبداً إجماعاً على أسباب هذا الرفض أو منطلقاته. بعض الرافضين لمرسي نزلوا يهدفون الضغط عليه لقبول انتخابات مبكرة، تمكن لمسار جديد للثورة، حسب ظنهم، وكثير منهم نزلوا يهدفون القضاء على الثورة، وعلى أهم مخرجاتها السياسية أي الديمقراطية.
اشتبكت أيدي هؤلاء في أيدي أولئك، ولكل وجهة هو موليها، ينتظر البعض الأول بمثالية تراجع مرسي، في حين يتيقن الكثير الثاني عدم تراجعه بعد إيهامه بالمساندة.
رفض مرسي إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، جاء الثالث من يوليو، جرى ما جرى، بدأت اعتصامات ميداني رابعة والنهضة، انسد أفق الحل السياسي مع تعنت الطرفين، قادة الإخوان لا يرون فيما جرى سوى انقلاب عسكري، في محاولة لغسل كل خطأ أو مسؤولية عليهم قبله، في حين اتخذت السلطة الجديدة أكذوبة الحرب على الإرهاب شعاراً لمواجهة الرافضين لخارطة الطريق الجديدة.
الانقلاب في مواجهة الإرهاب، هكذا لخص كل طرف باستسهال القصة بكاملها، ويتناسى باقي أجزائها، ليتمكن من حشد الأنصار.
حانت اللحظة المشؤومة في الرابع عشر من أغسطس عام 2013، واحدة من أسوأ اللحظات في تاريخ مصر، بل لا نبالغ إن قلنا في تاريخ الإنسانية، ليس لأن الآلاف قتلوا فحسب، بل لأنهم يقتلون ويحرقون ويدهسون والمجتمع يصفق في غيبة تامة لتأنيب الضمير. لحظات بائسة ما أشد بؤسها، وما أصعب وطأتها على النفوس الحرة.
المجزرة المذبحة سمِّها ما شئت، هي قتل للآلاف على غير أحكام القانون، سبقتها رغبة أكيدة في عدم الوصول لحل سياسي، كما صرح من بعد الدكتور البرادعي نائب الرئيس حينها. "هي أخطر حوادث القتل الجماعي غير المشروع في التاريخ المصري الحديث" هكذا وصف تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش المذبحة.
عداد القتلى يتصاعد ومأساة ذويهم لا تحتمل، وبدأت العودة، لم يستطع البعض الكتم على أنفاس ضميره لهذا الحد، فأراد أن يغسل يديه من الدماء، وأن يبرئ ساحته من الجريمة، منهم سياسيون كالبرادعي وأبو الفتوح وخالد علي، وكتاب كبلال فضل، يساريون كخالد داود وإبراهيم العيسوي، ليبراليون كالدكتور حمزاوي والنجار، وحقوقيون كجمال عيد، والأمثلة هنا ليست أبداً على سبيل الحصر.
يقترب الثلاثون من يونيو في ذكراه الثانية، وقائمة المتراجعين تتسع لتشمل آخرين دعوا له أو شاركوا فيه أو نظموه أو انضموا تحت لوائه، منهم المشهور ومنهم المغمور، منهم المبكرون ومنهم المتأخرون، منهم من تراجع سراً ومنهم من جهر به.
لكن هذا الاعتراف بالخطأ الذي من المفروض أن يكون فضيلة، يواجه بحملة تشكيك وتشويه مستمرة وانتقاص من أي فضيلة له، فالإخوان وضمن حزمة مغالطات أخرى يعتبرون كل من شارك في الثلاثين من يونيو مسؤولاً عن كل الدماء التي سالت بعده وتسيل حتى اليوم، وهو أمر ليس صحيحاً عقلاً ولا منطقاً.
فلو كان المشاركون في الثلاثين من يونيو مسؤولين عن هذه الدماء قيراطاً، لكان قادة الإخوان مسؤولين عنها أربعاً وعشرين، بدفعهم هؤلاء الشباب كوقود في معركة محسومة خسارتها، لأنها اتخذت من عودة مرسي شعاراً لها في الوقت الضائع.
لكنك إن واجهت أحداً من الإخوان بهذه المسؤولية يرد عليك فوراً بأنهم لم يكونوا يعلموا أن ما حدث سيحدث، أو أن الأمور ستتطور لهذا الحد الذي يقتل معه الآلاف. حسناً .. إن كان أنتم ومن موقع السلطة التي كنتم فيها لم تتوقعوا هذا؟ فلماذا تظنون أن من شارك في الثلاثين من يونيو كان يتوقعه؟ تلك مغالطة كبرى.
الثلاثون من يونيو كان ثورة الدولة على الثورة، والإخوان في ذلك الوقت كانوا السلطة –ولو شكلياً- وصحيح أنها سلطة من مخرجات الثورة، لكنها وصلت لحالة وحدوية أبعدتها عن باقي شركاء الثورة، ودون خوض في أسباب ذلك هنا، كانت النتيجة أن جمع الثلاثون من يونيو بعض شركاء الثورة مع كل الثورة المضادة.
ليس صحيحاً أن من نزل الثلاثين من يونيو كان يريد هدم الدين أو ضد الإسلام، الثلاثون من يونيو جزء من عملية سياسية، تتداخلت فيها موازين قوة ومصالح مادية وطبقية، واستهدفت نزع السلطة من الإخوان، ودحض أفكارهم، في هذا السياق لنجاح المهمة طبعاً.
الإخوان كانوا يرتدون ثوب الحاكم حينها ومن حق المحكومين أن يرفضوك أو يقيلوك، أنت لست ملكاً هبط من السماء. القاعدة الأصيلة أن أي مطلب جماهيري هو مطلب مشروع، فحق الجماهير أصيل في أن تطلب ما تشاء، وقت تشاء، كيف تشاء، وفق قواعد سياسية واضحة طبعاً، لكن لأن المجلس العسكري بنى عملية سياسية تجاوزت استحقاقات الثورة وساعده الإخوان في ذلك بقوة، انهارت هذه العملية بسهولة لأنها بنيت فوق رمال متحركة.
أخطأ الإخوان في حق الثورة، لكنهم منذ الثلاثين من يونيو أكثر من يدفعون الثمن، والكل يدفع معهم، قتلاً واعتقالاً ومطاردة وانسداداً في الحرية والعدالة والكرامة.
لو كان لي أن أقدم للإخوان نصحاً لقلت: عليكم أن تقيموا مواقف شركائكم من موقعهم يوم الرابع عشر من أغسطس حيث الجريمة، لا من موقعهم يوم الثلاثين من يونيو حيث السياسة، الثلاثون من يونيو خلاف سياسي، والرابع عشر من أغسطس خلاف إنساني.
الثلاثون من يونيو هو ضمن حزمة حسابات السياسة التي فيها حاكم ومحكوم وخضوع للمتغير، الرابع عشر من أغسطس ضمن حزمة حسابات الإنسانية التي فيها القتل جريمة، حيث الخضوع للثابت القيمي والأخلاقي الذي لا يقبل المقايضة.
(مصر)