الطريقة الصحيحة لخسارة الحرب

14 سبتمبر 2015
(نيويورك: ليتل براون وشركاه، 2015)
+ الخط -
يقول صن تزو -القائد العسكري الصيني ومؤلف كتاب "فن الحرب"- أن "النصر في الحرب يأتي قبل الانخراط في القتال، عن طريق تهيئة الظروف المناسبة للنجاح". فهل مهدت الولايات المتحدة أسباب النصر قبل أن تسيل دماء أبنائها في أرجاء الأرض؟

في كتابه "الطريقة الصحيحة لخسارة الحرب" الذي ينقسم إلى ثلاثة أجزاء تحوي عشرة فصول، يقدم دومينيك تيرني عرضاً لما خاضته الولايات المتحدة الأميركية من حروب، منذ نشأتها وحتى وقتنا هذا، ويكشف تيرني عن عدم قدرة الولايات المتحدة على التكيف مع حقبة جديدة من حروب العصابات، وتحول الحروب التقليدية إلى فشل عسكري ذريع.

بدأ العصر الذهبي للانتصارات الأميركية في عام 1846 عندما اكتسحت قواتها نظيرتها المكسيكية في ثمانية عشر شهراً، وأجبرت المكسيك على معاهدة "جوادالوب هيدالجو" وعلى إثرها نشأ الغرب الجنوبي للولايات المتحدة، ثم كانت الحرب الأهلية بعد عقدين تاليين، وتوحدت أميركا بعد حرب دموية أطاحت مئات الآلاف من مواطني البلد، ثم الحرب الإسبانية 1898، والتي بزغت منها الولايات المتحدة كقوة عظمى.

التدخل الحاسم
في الحرب العالمية الأولى جاء التدخل الأميركي متأخراً، لكنه كان حاسماً وأنهى الحرب بهزيمة ألمانيا وحلفائها وتدثرت الولايات المتحدة بثياب القوة المادية والمكانة الأخلاقية على حد تعبير مؤلف الكتاب. ثم وقعت الحرب الكونية الثانية وكسابقتها دخلتها أميركا متأخرة، بعد أن "استفزتها" اليابان في بيرل هاربر وأوقعت بالبحرية الأميركية أول أسوأ كارثة في تاريخها.
يروي المؤلف خطاباً للجنرال، جورج باتون، عام 1944 في قواته المتمركزة جنوب إنجلترا عشية غزو شواطئ نورماندي: "الأميركيون يلعبون دائماً للفوز في كل الأوقات، ولا مكان عندي للخاسرين، لهذا السبب فإننا لم ولن نخسر أبداً أي حرب، لأن فكرة الخسارة هي أمرٌ بغيض لدى الأميركيين". عندها لم يكن باتون يعلم أن تلك الحرب هى نهاية العصر الذهبي للانتصارات، وسيليها عصر الهزائم والانتكاسات.

يقول الكاتب "بعد الحرب العالمية الثانية شيدت الولايات المتحدة الآلة العسكرية الأعظم تكلفة في التاريخ، والتي عانت طوال سبعة عقود من الإحباط القاتل". وبحلول عام 1950 بدأ الانزلاق الأميركي، فخوفاً من السيطرة الشيوعية على العالم، استجابت الولايات المتحدة لصد الغزو الكوري الشمالي لكوريا الجنوبية (منتشية بخمر النصر وعظمة القوة)، واستطاعت القوات الأميركية دحر الغزو وإعادة الكوريين الشيوعيين إلى الشمال، بل واحتلت بيونغ يانغ والتقط الجنود الأميركيون الصور وهم يجلسون خلف مكتب كيم إيل سونج الزعيم الكوري الشمالي.

وعلى غير المتوقع تدخلت الصين لمصلحة كوريا الشمالية، ودفعت بمئات الآلاف من الجنود الذين أوقعوا بالقوات الأميركية ضربة ثقيلة، وبحلول عام 1953 توصل المتقاتلون إلى هدنة بعد خسارة أرواح 37000 جندي أميركي.

في عام 1961 تعهد جون فرانكلين كيندي بدفع أي ثمن يتطلبه ضمان بقاء ونجاح الحرية. ولكنه لم يكن يعلم أن بلاده تنجرف إلى مستنقع سيستمر سنوات طويلة، ففي نهاية الخمسينات كان الدور الأميركي في الصراع الفيتنامي يقتصر على إرسال المساعدات المالية والمستشارين المدنيين والعسكريين لفيتنام الجنوبية، ولكن بحلول عام 1965 بدأت الولايات المتحدة في إرسال قوات عسكرية وشن غارات جوية على فيتنام الشمالية واستمرت الحرب حتى انتهى الغزو الأميركي في 1975 بانسحاب مهين واتحاد فيتنام الشمالية والجنوبية تحت حكم شيوعي.

عقلية عدَّاد الجثث
للدلالة على نوعية تلك العقليات التي ورطت القوة العظمى في حرب تسببت في انقسام المجتمع الأميركي واستنزاف طاقة البلاد وضياع عشرات الآلاف من الشباب المهدورة دماؤهم. وهو ما ينقله الكتاب عن روبرت ماكنمارا، وزير الدفاع الأميركي 1961 إلى 1968: "في الحرب التقليدية لديك خطوط أمامية تتقدم بها على أرض العدو، أو يدفعك العدو إلى التقهقر داخل أرضك. وهكذا تعلم بوضوح إذا كنت تكسب أو تخسر، لكن فيتنام ليست ذلك النوع من الحرب والسؤال هو: هل نحن نربح؟ وماهي المعايير المناسبة لمعرفة ذلك؟

يقول الكاتب "وكانت أحد أهم تلك المعايير التي استخدمها الجيش الأميركي لقياس التقدم في فيتنام هو: عدد قتلى العدو"! "فكلما ازداد عدد من نقتلهم كلما اقتربنا من النصر". كان الأمر مضللاً؛ فلم يكن القتلى من المسلحين وحدهم بل من المدنيين أيضاً، ولم يكن هناك أي دليل على أن "هانوي" سوف تتقدم نحو السلام بسبب عدد القتلى".

بنهاية الحرب الباردة بلغت القوة الأميركية قمة جديدة، فبعد موت ودفن الاتحاد السوفييتي بدأت الولايات المتحدة تنفق على شؤون الدفاع ما يقارب مجموع ما ينفقه العالم مجتمعاً، وبدأ التدخل الأميركي في دول العالم يأخذ مسميات جديدة كالعمليات "الإنسانية" في الصومال أو في مكافحة الإرهاب، وفي الخمسة عشر عاماً التالية على الحرب الباردة تورطت الولايات المتحدة في حرب الخليج وأفغانستان والعراق بصورة لم تحدث في النصف قرن التالي للحرب العالمية الثانية، والذي تورطت فيه في حربي كوريا وفيتنام.

النصر الوحيد لم يكتمل
كانت حرب الخليج انتصاراً عسكرياً، حيث تم تحرير الكويت من قبضة صدام حسين بتكلفة بسيطة، وكتب المؤرخون العسكريون عن ذلك أن الولايات المتحدة تحولت من التخبط وضعف الرؤية في فيتنام إلى الثقة والنصر المؤزر في عاصفة الصحراء. وصور البيت الأبيض الحرب على أنها قضية أخلاقية وأن صدام كان نسخة من هتلر.

رفض بوش الأب التقدم نحو بغداد خوفاً من التورط في مستنقع العصابات، ولكن ذلك جعل كثيرين من الأميركيين يشعرون بعدم الرضا؛ فصدام ظل حاكما للعراق، وأظهرت استطلاعات الرأي أن كثيرين كانوا يفضلون دفع صدام إلى الاستسلام وإزاحته عن الحكم، كما حدث في الحرب العالمية الثانية من استسلام اليابان وألمانيا.

ثم أرسلت الولايات المتحدة قواتها إلى الصومال عام 1992 تحت مظلة الأمم المتحدة بدعوى إعادة بناء أمة ممزقة وتحويلها إلى عضو حيوي وفاعل في المجتمع الدولي، ولكن تحولت المهمة إلى مأساة وفشل وانسحبت القوات الأميركية بعد أن فقدت عدداً من أبنائها، فيما بات يعرف بمعركة سقوط الصقر الأسود، نسبة إلى سقوط طائرة هليكوبتر (بلاك هوك) على يد المسلحين الصوماليين، وأخرجت هوليوود فيلما بالاسم نفسه، يصور الواقعة وحجم المعاناة التي مرت بها القوات هناك.

في الحادي عشر من سبتمبر تلقت الولايات المتحدة أكبر ضربة في تاريخها على أراضيها، وفقدت الآلاف في تفجير برجي مركز التجارة الدولية بمنهاتن ومقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، وذهب بوش الإبن إلى الحرب في أفغانستان والعراق، وتكررت المأساة وانزلقت الولايات المتحدة إلى حرب عصابات دائمة التطور، وازداد ـ ولا يزال- سيل دماء الجنود الذين يواجهون عدواً لا يرونه.

حروب في كل مكان
حاربت الولايات المتحدة في فيتنام وكوريا ولبنان وغرينادا وبنما والصومال وهايتي والبوسنة وكوسوفو وأفغانستان والعراق والقرن الأفريقي وغيرها كثير كما يقول "روبرت غيتس"، ولكن تبقى الحقيقة أن حرب الخليج الأولى هي فقط الحرب التقليدية الوحيدة في كل تلك الحروب الدامية.

يسرد المؤلف حكايات مأساوية لمن فقدوا حياتهم في الحروب من أرباب الأسر والشباب الذين تركوا خلفهم آثاراً لا تمحى من الألم، والقاسم المشترك بينها كما يروي الكاتب، عدم قدرة الولايات المتحدة على الانسحاب في الوقت المناسب؛ "فعندما لا يكون النصر في متناول اليد؛ لابد أن تكون هناك طريقة صحيحة لخسارة الحرب".

يقول الكاتب مختتما: "بعض ممن لاقوا حتفهم من الرجال والنساء في هذا المسار، سقطوا في سبيل النصر العظيم، ولكن كثيراً من قوائم القتلى الممتدة في الأفق سقطوا لأن البلاد وقعت في فخ حرب فاشلة ولم تستطع الخروج منها. القادة الحقيقيون هم من يعرفون كيف يفوزون وكيف يخسرون بطريقة صحيحة".

*كاتبة مصرية
المساهمون