ليخرج الصحافي بمادة ممتعة من مهرجانٍ مسرحي ويقف عند "يوم المسرح العالمي" الذي يحل اليوم؛ لا بد أن يتحدث إلى فنان ومجنون مسرح كبير كخالد الطريفي. المخرج والممثل الأردني التقيناه على هامش مشاركته في "مهرجان الدوحة المسرحي" الذي اختتمت فعالياته أمس بمسرحية "عرس الدم" - نصّ لوركا الشهير (إخراج فهد الباكر).
في مستهل حوارنا معه، هنّأ الطريفي المسرحيين العرب، بمناسبة "يوم المسرح العالمي"، قائلاً: "كل عام و"المسرحجية" بخير". وسرعان ما انتقلنا معه إلى انطباعاته عن عروض المهرجان التي يرى أن رؤاها الفنية متفاوتة سيما أن أجيالاً مختلفة شاركت فيها: "تعددت الأشكال والأنواع والألوان، والمسرح واحد". لكن حين يتعلق الأمر بفن المسرح، يقتبس الطريفي من لوركا: "لا يكون الشعر بالشكل والمضمون فقط، بل بالعمود الفقري الذي يهجع خلفهما".
ويرى صاحب "حان وقت الفنتازيا" أن الشكل والمضمون ملكٌ للمسرحي، "أما أنا فأشاهد النخاع الشوكي في ذاك العمود الفقري، الذي يرسل مجموعة من الإشارات تستند إلى أسس الإخراج والنص والتمثيل، مهما كان شكله أو مضمونه ورؤيته". ويتساءل: "هل تم تقديم هذه الرؤية بناءً على الأسس المسرحية المتعارف عليها؟".
ورغم أن العروض استطاعت، برأي الطريفي، أن تقدّم مضامينَ وأفكاراً تشتبك مع الراهن العربي، من خلال تجسيد الدكتاتوريات وممارساتها القمعية طوال الستين عاماً الماضية، والصراعات الطبقية والاجتماعية والتاريخية، إلا أنه يجد، بالمقابل، "أنها افتقدت في كثير من الأحيان إلى المعرفة الكافية بالمسرح وأسسه، وإلى الرؤية البصرية الجمالية، إضافة إلى التشابه الكبير في مفرداتها، كما شهدت ضعفاً في الأداء وفي إعداد الممثلين لتنفيذ الأعمال".
أما الحالة المسرحية الأردنية، فيصفها الطريفي بـ"المأساة"، وإن كان يرى وجود إمكانيات إبداعية لدى المسرحيين في بلده "لكن السؤال يتوقف عند فلسفة الدولة في رؤيتها لموضوع الثقافة ومخصصاتها".
فالمسرح، بالنسبة لصاحب "ملحمة فرج الله" هو "فن نخبوي؛ معبديّ ومُقدّس، له شروط وظروف لا بد أن تعمل الدولة على توفيرها". ويصر الطريفي على وصفه بالنخبوي، لأن "المبدعين نخبة، سواءً في الثورة أم في الفن أو حتى في مهنهم".
وتتأتى نظرته هذه عبر تساؤلٍ يطرحه: "هل الجميع يشارك في الثورة؟ هل الجميع لديه الاستعداد أن يضحي بالكثير من أجلها؟ وكذلك الفن، هل الجميع يذهب ليشاهد المسرح؟ لا، لهذا هو نخبوي".
وحين سألناه عن المسرحيين هناك، وما الذي يبذلونه من أجل إنتاجهم، أجاب: "لا شيء! المسرحيون ينتظرون المهرجانات، ليحصلوا على تمويلٍ من الدولة، كي يقدموا أعمالهم"، مشيراً إلى أن مخصصات المهرجانات في كل عام تنخفض أكثر فأكثر.
مسرحية "سيرة ذاتية" (2011)، من أبرز الأعمال التي شارك فيها الطريفي مؤخراً، وهي من كتابة وإخراج أحمد المغربي، وأول عمل يجمع بينهما. تتحدث المسرحية عن مجموعة ممثلين يستعدون لتقديم عرض مسرحي، وقبل الموعد بنصف ساعة يقرر أحدهم الانسحاب، ما يثير غضب المخرج، الذي أدى دوره الطريفي، فتتصاعد الأحداث تدريجيّا، بحيث ينساق الممثلون جميعاً خلف ذاك القرار، مُنسحبين من العمل، من دون أن يستسلم المخرج لهذا الانسحاب.
يقول الطريفي حول مشاركته هذه بأنها شكّلت له تجربة مسرحية حقيقية في علاقته بالفريق الذي عمل معه، لإيمانهم جميعاً بالفكرة "التي تتميز خصوصاً بإلقائها الضوء على معاناة المسرحيين العرب، وليس الأردنيين فحسب. وفي عمقها تتحدث أيضاً عن حال الإنسان العربي والفلسطيني في نزوحه ولجوئه وترحاله".
تنتهي هذه المسرحية بمشهد مثّله الطريفي ويسرد سيرة المخرج ومعاناته وعناده لتحقيق حلمه في العمل في الفن والمسرح. وتتماهى هذه السيرة التمثيلية كثيراً مع سيرة الطريفي. فهو خرج من الأردن عام 1974 ليدرس في معهد الفنون الجميلة في القاهرة، لكنه أُبعد من هناك لنشاطه السياسي، فذهب إلى بغداد، ثم بيروت، قبل أن يعود إلى عمّان.
يفسّر صاحب "يا سامعين الصوت" هذا التماهي مستحضراً مقولة كنعانية: "إذا أردتَ، تستطيع". ويتابع: "وأنا أردت أن أكون مسرحياً، فاستطعت أن أقدم عرض "سيرة ذاتية". أريد أن أحقق الانتصار، لا أن أموت".
قدّم الطريفي في العام 2007 عملاً بعنوان "كاسات الحب"، يدور فيه صراع بين "الكوميديا" و"التراجيديا"، على أرضية دائرية تذكر بميادين الربيع العربي. يروي المخرج قصة هذه المسرحية مشيراً إلى أنه "ذات يوم، دار صراع حقيقي بين "الكوميديين" و"التراجيديين" في الأردن، على اعتبار أن كلّا منهما هو الأهم. وما يحدث الآن على خشبة المسرح أو في مصر وسوريا وليبيا وبقية الدول العربية هو نتيجة لهذا الصراع". وإذ يستشهد بمقولة شكسبير "الحياة مسرح كبير" فإنه يفرّق بين الحياة والمسرح:
"الحياة تسيل فيها دماء حقيقية، وتُقطع رؤوس ثم تتحول إلى كُرات قدم. أما في المسرح، فيتحول الصراع إلى إنكار المسرحيين بعضهم بعضا"، مُشبهاً ذلك بما يحصل على أرض الواقع: "وكأن الحياة يجب أن تكون لقوة واحدة دون غيرها! لن تستقيم الحياة المسرحية ولا الحياة الحقيقية إلا بتضافر المجتمع كاملاً والمسرحيين جميعاً، كي ينهضوا بالحالة الاجتماعية والفنية".
لاقت "كاسات الحب" انتقاداً واسعاً بعد عرضها، إذ لم ترق للجمهور والنقاد على حدّ سواء. وحتى الطريفي وصفها مرة بـ"كاسات الفشل". وحين سألناه عن السبب، أجاب: "انظر إلى ما يحدث الآن في الواقع العربي السياسي والاجتماعي والثوري، هل يشربون كاسات الحب؟ أم كاسات الدم؟"
وحول ارتكاز الطريفي على الموروث الشعبي، وتحديداً على حكايات "الجدات" التي تضفي صبغة حميمية على مسرحياتِه، يقول: "يمكن النظر إلى أدوات التعبير الشعبية على أنها أوعية، لكَ أن تملأها بالدراما كما تشاء. وهي من هويتي".
بعد تجربة امتدت لأكثر من 30 عاماً، نسأل "المسرحجي" ما الذي لم يفعله بعد؟ فيجيب: "الكثير.. بودي أن أُمسرحَ عمّان، الوطن العربي، الكرة الأرضية.. أريد أن أعيد مسرحة الكون كله!"
وحين نسأله كيف؟ وإلى أين؟ يقول: "تقوم الدولة على ثلاث: سياسة واقتصاد وفلسفة، وتقوم الثقافة على ثلاث: العلوم والفنون والآداب. انظر إلى فلسفة الدول الآن تجاه الثقافة وتحديد هوية الدولة، تعرف أين هو الخلل. أتمنى أن أرى 350 مليون مواطن عربي لا دين يفرقهم ولا طوائف ولا طبقية".
وعن مشاريعه الجديدة، يشير الطريفي إلى أنه وزملاء له في صدد تأسيس ما يسمى بـ"مسرح الستين كرسيّاً"، "لكننا سنسميه مسرح الـ 99 كرسيا"، ونتوقع أن يكون جاهزاً في نهاية العام".