من الطبيعي أن يثير صدور سبعة كتب في سنوات قليلة (2012 – 2016) انتباه الساحة الثقافية في تونس لاسم مؤلف آثر أن يغيب عنها قبل ذلك. أشكال الحضور، الصامت أو المكثف، هي أوّل ما يعترضنا في تجربة الناقد (الثقافي) التونسي الطاهر أمين (1960) الذي صدر له مؤخراً كتاب "خطابات الإسلام التونسي" عن "دار سحر" (تونس 2016).
هل كان مشروع الكتابات المتواترة جاهزاً في سنوات الصمت أم إنه تبلور وهو قيد الإنجاز بعد الثورة؟ من هنا يبدأ حديثنا مع أمين الذي يقول: "كنت أفكر في الكتابة منذ أواخر الثمانينيات، ساهمت وقتها في الحياة الثقافية من خلال النوادي والجرائد، غير أنني في 1991 قرّرت الانقطاع عن الحياة الثقافية لأنه لم تعد هناك جدوى للكتابة".
يتابع "كانت الساحة، آنذاك، تسمح بهامش نقدي ثقافي حقيقي، لكن مع سيطرة السلطة الجديدة (صعود بن علي للحكم) تمّت مراجعة المساحات في الإعلام والحياة الثقافية، وقد جاء ذلك ضمن سياق عربي عام كانت حرب الخليج مشهده الأكثر كارثية. بدا لي أن السلطة لم تكن بحاجة إلى ثقافة لذلك قررت الذهاب إلى الصمت".
لم يرجع أمين عن قراره إلا بعد ثورة 2011. وهو وإن كان يعلن خيبة أمله منها إلا أنه يقول: "ثورات الربيع العربي سمحت لي باستعادة الصلة مع الكتابة، لأنها سمحت لنا أن نطرح سؤال المعنى: معنى الحرية والثورة والديمقراطية والإسلام وغيرها. فكرّت وقتها في تفكيك مفاهيم اعتبرت أن العلاقة معها ينبغي أن تكون نقدية، فكانت الثلاثية".
في كتاباته، يعرّف الطاهر أمين نفسه بـ "ناقد وباحث في الإسلاميات"، ربما باعتبار تخرّجه من "كلية الزيتونة للشريعة وأصول الدين". لكن قارئ أمين يجد أن فضاء تحرّكه أعم ممّا توحي به صفة الباحث في الإسلاميات. يقول "أرى أنه لا ينبغي أن نبالغ في البحث في الإسلاميات وقد وجدت أن البحث في المسألة الثقافية يتضمّن البحث في الإسلام باعتباره محور ثقافتنا ولكنه لا يختزلها، بل إن فهمه يقتضي مجال نظر أوسع وربطه بكل الأفق الحضاري".
هذا الموقف فرضته رؤية عامة، إذ يعتبر أمين أن "البحث في الإسلاميات بالطريقة المتداولة عربياً لم يعد يجدي. الإسلام اليوم هو مسألة ثقافية قبل أن تكون دينية. ولم يعد ممكناً تأجيل إعادة النظر في طرح المسألة الدينية التي تحايلنا عليها طويلاً. الثقافة العربية لا تفعل سوى أن تؤجل الطرح الجذري للمسألة الدينية".
يصل بنا الحديث هنا إلى حواف كتابه الأخير، الذي يدرس فيه تناول خمسة مفكرّين تونسيين للإسلام. ما يلاحظ هنا أن جميعهم لم يكن الإسلام ضمن اختصاصه الأكاديمي المباشر، على عكس أمين، ولعل هذا الانعكاس من أبرز ما يلفتنا إلى الكتاب.
يتناول العمل أفكار كل من محمد الطالبي وهشام جعيّط (كلاهما متخصّص في التاريخ) وعبد الوهاب بوحديبة (علم الاجتماع) وعبد المجيد الشرفي (حضارة عربية) ومحمد الشرفي (رجل قانون وسياسة).
يقول المؤلف "حاولت تقييم ما يسمّى بالمدرسة التونسية. تساءلت هل قدّمت نتائج معرفية كبرى؟ ووجدت أنها تعاني من إشكالية المنهج وتعدّد المنطلقات، وهي في المحصّلة مجرّد محاولات لا تزال تبحث عن خصوصياتها".
الملاحظ أن الأسماء التي اختارها صاحب كتاب "الإسلام النقدي" تمثّل أسماء أساسية في الجامعة التونسية، ما يدفعنا للتساؤل هل من علاقة بين هذه "المدرسة التونسية" والدولة؟ يرى أمين أن "المرحلة البورقيبية شكّلت إطاراً لجميع هؤلاء المفكرين، والمفارقة أن بورقيبة كان أكثر الأصوات جرأة، أي أن جرأته كانت تتجاوز جرأة المفكرين وتسبقها".
من خارج الوظيفة الجامعية، يشتغل أمين على أبحاثه في ساحة ثقافية تونسية تفتقر لأسماء فرضت نفسها من خارج الجامعة. يقول هنا "يجب أن نكسر هذا الاحتكار الذي تمارسه الجامعة، ولكني لا أعتبر نفسي في مواجهة معها، وقد اخترت في كتابي خمسة أسماء أكاديمية للدرس".
يضيف "أن تكون داخل الجامعة ليس امتيازاً معرفياً. المشكل هو في افتراض الجامعة عن نفسها بأنها الفضاء الوحيد الممكن لإنتاج المعرفة وهذا افتراض يتداخل مع حاجات السلطة التي تريد ضبط الإنتاج المعرفي حسب حاجاتها، حتى أصبح يمكن تشبيه الجامعة في تونس بغيتو معرفي".
رغم تراكم أعماله، يظل اسم الطاهر أمين مرتبطاً، في الإعلام خصوصاً، بـ "ثلاثية البؤس"، غير أن من يتابع أعماله، ومن يحادثه، يشعر بأنه تخلّص من هذه الثلاثية، وأن قطيعة حدثت مع المرور إلى أعمال لاحقة، كان أحد تمظهراتها هو ترك الكتابة الشذرية التي اعتمدها في أعماله الثلاثة الأولى، إضافة إلى كتاب "متسوّل الموت".
حول الخيارات الشكلية للكتابة، يقول "الكتابة الشذرية هي كتابة مضادة، ولا تكون إلا كذلك أي أن الوضعية التي يفترضها الكاتب لنفسه هي التي تدعوه إلى هذا الشكل. أما الدراسات الفكرية، فهي تحتاج إلى شكل كتابة مغاير".
قد يلاحظ هنا قارئ أمين بأن تركه للكتابة الشذرية لم يكن قاطعاً، ففي أعماله الدراسية يبدو وكأنه يستعيد (أو يحاكي) هذا النمط من خلال كثرة الاستشهادات والإحالات، حتى أن أعمالاً مثل "الأفق النقدي الجديد" أو "الإسلام النقدي" تكاد تشبه شذرات جماعية يجمعها خيط تأليفي ناظم، فلصفحات بأكملها يمكن أن يفتقد القارئ صوت المؤلف وهو يمرّ من اقتباس إلى آخر، ضمن عملية تجميع دقيقة وصارمة.
حول هذه الملاحظات الشكلية، يردّ أمين قائلاً "المسألة متعلّقة بعادات في الكتابة باللغة العربية، حيث تكون المساحة الأكبر لصوت الكاتب، فيما تظل الاقتباسات في الهامش. أعتبر أنه ليس عليّ أن أحضر من أول صفحة إلى الأخيرة. الاقتباس يتيح لي أن أُظهر أن صوت المقتبس منه هو وجه آخر لصوتي".
لعل كتاب "الأفق النقدي الجديد" هو أكثر أعمال أمين التي ينطبق عليها هذا النموذج في الكتابة، كما أنه أكثر أعماله كشفاً لملامح "مخطط" مشروعه النقدي. عن هذا الكتاب، يقول: "هو محاولة لفهم منطلقات المشروع النهضوي العربي في محاولة للوصول، بسرعة، إلى آفاق النقد الممكنة اليوم".
يرى أمين أن "من ينظر إلى تجربة قرنين من الفكر العربي سيلاحظ أنه قد جرى تدمير الروح النقدية في ثقافتنا العربية، حتى أن منطلقات كل مشروع ثقافي تبدو أكثر وعوداً من النتائج". من هنا، يعتبر أنه علينا تلمّس هذا الأفق النقدي في لمحات من مشاريع، يعدّد بينها محاولات هشام شرابي وعبد الكبير الخطيبي وإدوارد سعيد، وحتى روائي مثل إلياس خوري في كتاباته النقدية والسياسية.
يقول "أعتقد أنه يمكن أن نؤسس على ما وصل له هؤلاء. محاولاتهم غير مكتملة ولكن يمكن طرح المسألة النقدية على ضوء الإنجازات القليلة التي قاموا بها". يلفتنا أمين أيضاً إلى ما يسميه بـ "جناية التلقي" حيث أن هذه المشاريع اختزلت حتى فقدت مضمونها، فإدوارد سعيد ظلّ محصوراً في كتاب "الاستشراق"، وإلياس خوري في رواياته، أما شرابي والخطيبي فهما يكادان يكونان خارج الثقافة العربية بما أنهما كتبا بلغات أجنبية".