07 اغسطس 2024
الصمت الدولي على الجاري في مصر
في الثالث والعشرين من يناير/ كانون الثاني الماضي، وخلال الإيجاز الصحافي المعتاد للمتحدثة باسم الخارجية الأميركية، هيذر نويرت، توجه إليها أحد الصحافيين بسؤال بشأن موقف الإدارة الأميركية من اعتقال رئيس أركان الجيش المصري السابق، سامي عنان، بعد إعلانه نيته الترشح لانتخابات الرئاسية المصرية المقبلة. فأكدت المتحدثة، في ردّها، أن الخارجية الأميركية "واعية بالاعتقال" و"تتابع الوضع عن كثب"، وأن أميركا "تدعم عقد انتخابات ذات مصداقية" في مصر. ولكنها (المتحدثة) لم تدن اعتقال عنان، أو تعبر عن أي موقف أميركي له قيمه ضد الانتهاكات التي ارتكبت في حق الرجل، أو في حق غيره من المرشحين. وكان اعتقال عنان قد جاء بعد أيام قليلة من زيارة مايك بنس نائب الرئيس الأميركي القاهرة. وعلى الرغم من تخليه عن أي مطالب داعمة للتغيير الديمقراطي في مصر، لم يختلف الموقف الأميركي كثيرا عن الموقف الأوروبي الغائب تقريبا عن الأحداث.
كيف نقرأ المواقف الغربية السابقة؟ وهل تعد طارئة على الغرب في ما يتعلق بسياساته تجاه التحول الديمقراطي في مصر؟ وماذا يمكن أن ننتظر من الولايات المتحدة وأوروبا من دعم للحراك الديمقراطي في مصر خلال الشهور، وربما السنوات المقبلة؟ تتطلب الإجابة قراءة صحيحة لتاريخ سياسة الغرب تجاه نشر الديمقراطية في مصر. وهذا يعني أننا لا يجب أن نعود إلى الوراء عاما أو عامين لكي نفهم ما يحدث، بل نحتاج العودة عقدين أو أكثر إلى
الخلف، لكي نفهم حقيقة الموقف الغربي. فهذه ليست المرة الأولى التي يتخلى فيها الغرب عن دعم التحول الديمقراطي في مصر، ففي عام 2006 حدث الشيء نفسه تقريبا، فلم يكن الغرب، وتحديدا أميركا، معنيا بنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط بشكل جاد، إلا بعد أحداث "11 سبتمبر" في 2001. ساعتها أعلن الرئيس الأميركي، جورج دبليو بوش، "أجندة الحرية"، والتي ربطت بين مكافحة "الإرهاب" ونشر الديمقراطية. وبعد غزو العراق، ضغط بوش على نظم عربية مختلفة، بما في ذلك مصر، للإسراع بعجلة التغيير الديمقراطي وفتح بلادها للانتخابات الحرة.
وخلال عامي 2005 و2006 فازت حركة حماس في الانتخابات الفلسطينية، وفاز الإخوان المسلمون في الانتخابات البرلمانية في مصر، وصعدت قوى دينية شيعية في انتخابات العراق قابلها صعود تنظيم القاعدة، وهي تطورت أشعرت بوش ومسؤولي الإدارة الأميركية بأن الإسراع في عقد الانتخابات وفتح البلدان العربية للديمقراطية سيؤدي إلى صعود قوى (التيارات الدينية) معادية لمصالح الولايات المتحدة. لذا تراجعت أميركا عن نشر الديمقراطية في العالم العربي، وقلصت ميزانياتها المخصصة لذلك، وسمحت للأنظمة بالعودة إلى تقييد المعارضة وقمعها من جديد. واستمر الحال على ما هو عليه حتى ثورات الربيع العربي التي فاجأت الرئيس باراك أوباما الذي حرص، منذ توليه الحكم، على التحلي بالواقعية السياسية، و"عدم فرض الديمقراطية من الخارج".
ولولا الربيع العربي ووصوله إلى مصر، لما تراجع أوباما عن حذره، وعن عدم اكتراثه بتفعيل سياسة نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، فقد بادر بعد ثورة يناير بمضاعفة ميزانية نشر الديمقراطية في مصر إلى حوالي 65 مليون دولار سنويا (فقط)، ينفق معظمها من خلال المؤسسات الأميركية العاملة في مصر، وبالشراكة مع برامج تنظمها الحكومة المصرية. مع العلم أن ميزانية أميركا لنشر الديمقراطية في مصر عشية الثورة لم تتعدّ 25 مليون دولار سنويا، مقارنة بحوالي 50 مليونا في 2006، وهذا يعني أن بوش خفض الميزانية المحدودة للغاية إلى النصف بعد صعود "الإخوان المسلمين" في انتخابات 2005.
ومع العلم أيضا بأن نسبة ما يذهب مباشرة في صورة منح لمؤسسات المجتمع المدني المصري من تلك المعونات نسبة ضئيلة للغاية، قد لا تتعدى العشر، تذهب بالأساس إلى مجموعة صغيرة من المؤسسات الحقوقية والمدنية في القاهرة. أما غالبية المساعدات الأميركية التي تقدر بحوالي 1.5 مليار دولار سنويا فتذهب في صورة مساعدات عسكرية (1.3 مليار) للقوات المسلحة المصرية، ضمن تفاهمات اتفاقات كامب ديفيد، وتذهب البقية مساعدات اقتصادية.
أما أوروبا فمساعداتها لمصر كانت دوما اقتصادية تنموية، وإنفاقها المحدود لنشر الديمقراطية يركز بالأساس على التنمية وبناء المؤسسات البيروقراطية ونشر ثقافة الحريات، ويبتعد عن الدعم المباشر للمعارضة، خوفا من إغضاب السلطات المصرية.
وبعد انقلاب الجيش المصري على التحول الديمقراطي في يوليو/ تموز 2013، لم يتغير الأمر كثيرا، فأولوية الولايات المتحدة في مصر كانت وما زالت الأمن والاستقرار والحفاظ على اتفاقات السلام مع إسرائيل، أما أوروبا فتنظر إلى مصر باعتبارها جارا بعيدا، يختلف عنها ثقافيا، وأكثر ما تتمناه أوروبا في مصر أن تحافظ الأخيرة على استقرارها، وألا تدخل في أزمةٍ تؤدي إلى تدفق المصريين لاجئين إلى شواطئها، وأن تحافظ مصر على أمن شواطئها المحلية، منعا لتدفق اللاجئين الأفارقة.
بعد الانقلاب العسكري، والذي راح ضحيته مئات المواطنين المصريين، جمد الرئيس أوباما بعض المساعدات العسكرية والاقتصادية، في حين دفعت دول خليجية للنظام الجديد أضعاف تلك المساعدات دعما لانقلابه، كما شجبت أوروبا الانقلاب بشدة. ولكن سرعان ما وقّعت إيطاليا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا اتفاقاتٍ عسكريةً واقتصاديةً ضخمة مع النظام الجديد. ومعروفٌ أن الدول الأوروبية لا تتفق مع بعضها في السياسات الخارجية، وتسابق بعضها للفوز بالأسواق الاقتصادية والعسكرية الخارجية، كما تراجع أوباما عن تجميد المساعدات، بعد عام ونصف العام، تقريبا دعما للجيش المصري في حربه ضد الإرهاب في سيناء، وتقديرا لدوره في الحفاظ على اتفاقات السلام مع إسرائيل، واعترافا بالأمر الواقع الذي لم ترغب أميركا كثيرا في تحديه.
والواضح أن الغرب تخلى عن دعم التحول الديمقراطي في مصر في الفترة الحالية، كما في
فعل في 2006، وللأسباب نفسها تقريبا، فالغرب ينظر إلى مصر والعالم العربي من باب الحفاظ على الأمن والمنافع الاقتصادية بالأساس، ويخشى صعود التيارات الدينية، حفاظا على مصالحه وحماية لإسرائيل، كما بات يفضل الاستقرار على الديمقراطية لما ترتبط به بداياتها من عدم استقرار، كما يحدث في سورية وليبيا والعراق، ولم يعد يطيق أن يتحمل مزيدا من أزمات المنطقة. هذا بالإضافة إلى شعور الغرب بتراجع مكانته في العقد الماضي أمام صعود نفوذ سلطويات ثرية، كالصين وروسيا، وانشغاله بمشكلاته الداخلية، وفي مقدمتها صعود اليمين المتطرّف في الولايات المتحدة وأوروبا. فالولايات المتحدة يحكمها رئيس ينتمي لليمين المتطرّف، قرّر العصف باتفاقات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين دعما لمواقف اليمين المتطرّف الحاكم في إسرائيل، وقرّر أيضا خفض ميزانية المساعدات الأميركية الخارجية، وفي مقدمتها ميزانية نشر الديمقراطية، بل بات دعما قويا للديكتاتوريات في المنطقة، ومن ضمنها النظام الحاكم في مصر.
أما أوروبا، فخلال زيارة المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، القاهرة، في مايو/ أيار الماضي، قدمت حوالي نصف مليار دولار في صورة مساعدات اقتصادية لمصر نظير مساعدتها للحد من تدفق اللاجئين نحو الشواطئ الأوروبية، تحت ضغوط انتخابية من أحزاب اليمين المتطرّف، والتي تقدمت بوضوح في الانتخابات البرلمانية أخيرا.
باختصار، تخلى الغرب عن دعم التغيير الديمقراطي في مصر حاليا، وفي السنوات المقبلة، ولن يغير موقفه بسهولة، ومن دون تغير موازين القوى في الدول العربية نفسها، سواء لأسباب مفاجئة، كانقضاء أعمار نظم استبدادية متهالكة، كما حدث في الربيع العربي، أو غير ذلك. ولعل الدرس الأهم هو حاجة دعاة التغيير في مصر والعالم العربي لعدم الاتكال على الخارج في المستقبل المنظور.
كيف نقرأ المواقف الغربية السابقة؟ وهل تعد طارئة على الغرب في ما يتعلق بسياساته تجاه التحول الديمقراطي في مصر؟ وماذا يمكن أن ننتظر من الولايات المتحدة وأوروبا من دعم للحراك الديمقراطي في مصر خلال الشهور، وربما السنوات المقبلة؟ تتطلب الإجابة قراءة صحيحة لتاريخ سياسة الغرب تجاه نشر الديمقراطية في مصر. وهذا يعني أننا لا يجب أن نعود إلى الوراء عاما أو عامين لكي نفهم ما يحدث، بل نحتاج العودة عقدين أو أكثر إلى
وخلال عامي 2005 و2006 فازت حركة حماس في الانتخابات الفلسطينية، وفاز الإخوان المسلمون في الانتخابات البرلمانية في مصر، وصعدت قوى دينية شيعية في انتخابات العراق قابلها صعود تنظيم القاعدة، وهي تطورت أشعرت بوش ومسؤولي الإدارة الأميركية بأن الإسراع في عقد الانتخابات وفتح البلدان العربية للديمقراطية سيؤدي إلى صعود قوى (التيارات الدينية) معادية لمصالح الولايات المتحدة. لذا تراجعت أميركا عن نشر الديمقراطية في العالم العربي، وقلصت ميزانياتها المخصصة لذلك، وسمحت للأنظمة بالعودة إلى تقييد المعارضة وقمعها من جديد. واستمر الحال على ما هو عليه حتى ثورات الربيع العربي التي فاجأت الرئيس باراك أوباما الذي حرص، منذ توليه الحكم، على التحلي بالواقعية السياسية، و"عدم فرض الديمقراطية من الخارج".
ولولا الربيع العربي ووصوله إلى مصر، لما تراجع أوباما عن حذره، وعن عدم اكتراثه بتفعيل سياسة نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، فقد بادر بعد ثورة يناير بمضاعفة ميزانية نشر الديمقراطية في مصر إلى حوالي 65 مليون دولار سنويا (فقط)، ينفق معظمها من خلال المؤسسات الأميركية العاملة في مصر، وبالشراكة مع برامج تنظمها الحكومة المصرية. مع العلم أن ميزانية أميركا لنشر الديمقراطية في مصر عشية الثورة لم تتعدّ 25 مليون دولار سنويا، مقارنة بحوالي 50 مليونا في 2006، وهذا يعني أن بوش خفض الميزانية المحدودة للغاية إلى النصف بعد صعود "الإخوان المسلمين" في انتخابات 2005.
ومع العلم أيضا بأن نسبة ما يذهب مباشرة في صورة منح لمؤسسات المجتمع المدني المصري من تلك المعونات نسبة ضئيلة للغاية، قد لا تتعدى العشر، تذهب بالأساس إلى مجموعة صغيرة من المؤسسات الحقوقية والمدنية في القاهرة. أما غالبية المساعدات الأميركية التي تقدر بحوالي 1.5 مليار دولار سنويا فتذهب في صورة مساعدات عسكرية (1.3 مليار) للقوات المسلحة المصرية، ضمن تفاهمات اتفاقات كامب ديفيد، وتذهب البقية مساعدات اقتصادية.
أما أوروبا فمساعداتها لمصر كانت دوما اقتصادية تنموية، وإنفاقها المحدود لنشر الديمقراطية يركز بالأساس على التنمية وبناء المؤسسات البيروقراطية ونشر ثقافة الحريات، ويبتعد عن الدعم المباشر للمعارضة، خوفا من إغضاب السلطات المصرية.
وبعد انقلاب الجيش المصري على التحول الديمقراطي في يوليو/ تموز 2013، لم يتغير الأمر كثيرا، فأولوية الولايات المتحدة في مصر كانت وما زالت الأمن والاستقرار والحفاظ على اتفاقات السلام مع إسرائيل، أما أوروبا فتنظر إلى مصر باعتبارها جارا بعيدا، يختلف عنها ثقافيا، وأكثر ما تتمناه أوروبا في مصر أن تحافظ الأخيرة على استقرارها، وألا تدخل في أزمةٍ تؤدي إلى تدفق المصريين لاجئين إلى شواطئها، وأن تحافظ مصر على أمن شواطئها المحلية، منعا لتدفق اللاجئين الأفارقة.
بعد الانقلاب العسكري، والذي راح ضحيته مئات المواطنين المصريين، جمد الرئيس أوباما بعض المساعدات العسكرية والاقتصادية، في حين دفعت دول خليجية للنظام الجديد أضعاف تلك المساعدات دعما لانقلابه، كما شجبت أوروبا الانقلاب بشدة. ولكن سرعان ما وقّعت إيطاليا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا اتفاقاتٍ عسكريةً واقتصاديةً ضخمة مع النظام الجديد. ومعروفٌ أن الدول الأوروبية لا تتفق مع بعضها في السياسات الخارجية، وتسابق بعضها للفوز بالأسواق الاقتصادية والعسكرية الخارجية، كما تراجع أوباما عن تجميد المساعدات، بعد عام ونصف العام، تقريبا دعما للجيش المصري في حربه ضد الإرهاب في سيناء، وتقديرا لدوره في الحفاظ على اتفاقات السلام مع إسرائيل، واعترافا بالأمر الواقع الذي لم ترغب أميركا كثيرا في تحديه.
والواضح أن الغرب تخلى عن دعم التحول الديمقراطي في مصر في الفترة الحالية، كما في
أما أوروبا، فخلال زيارة المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، القاهرة، في مايو/ أيار الماضي، قدمت حوالي نصف مليار دولار في صورة مساعدات اقتصادية لمصر نظير مساعدتها للحد من تدفق اللاجئين نحو الشواطئ الأوروبية، تحت ضغوط انتخابية من أحزاب اليمين المتطرّف، والتي تقدمت بوضوح في الانتخابات البرلمانية أخيرا.
باختصار، تخلى الغرب عن دعم التغيير الديمقراطي في مصر حاليا، وفي السنوات المقبلة، ولن يغير موقفه بسهولة، ومن دون تغير موازين القوى في الدول العربية نفسها، سواء لأسباب مفاجئة، كانقضاء أعمار نظم استبدادية متهالكة، كما حدث في الربيع العربي، أو غير ذلك. ولعل الدرس الأهم هو حاجة دعاة التغيير في مصر والعالم العربي لعدم الاتكال على الخارج في المستقبل المنظور.