15 نوفمبر 2024
الصراع على الشرق الأوسط... "وطأة الرمزية"
كنت، قبل أيام، أجلس مع أصدقاء نتجاذب أطراف الحديث، عندما سأل أحدهم ألا يوجد اليوم في أميركا وروسيا، ودول أخرى، احتياطات نفط وطاقة تعادل ما يوجد في الشرق الأوسط؟ كان الجواب نعم. ثم سأل متابعا، أليس في أميركا، التي نعيش فيها، من المصادر الطبيعية، من مياه ومعادن وتربة خصبة.. إلخ، ما يبز ما عندنا في ذلك الإقليم المضطرب من العالم؟ فكان الجواب مرة أخرى نعم. ثمّ جاء سؤاله الثالث استنكارياً: إذا كان الحال كذلك، وإذا كان الغرب والشرق (ضمن منظومة دول الشمال، ونعني بها هنا الغرب وروسيا) غنيين بالثروات والأراضي والإمكانات، فلماذا هذا التكالب الوحشي على منطقة الشرق الأوسط؟ حينها، تأنى الجميع في الإجابة، حيث لم يعد بالإمكان حصرها في نعم ولا.
بداية، لابد من ضبط سريع للمصطلح هنا. فلإقليم الشرق الأوسط، وهو إحالة استعمارية، عدة تعريفات جيوسياسية، قد تتسع دائرتها وقد تضيق. ولكن، وحتى لا نستغرق في أمرٍ جانبي في هذا السياق، أحصر الحديث هنا عن قلب "الشرق الأوسط"، والمتمثل في دول "الهلال الخصيب": العراق، سورية، الأردن، فلسطين، ولبنان. وكذلك دول الخليج العربي: السعودية، قطر، الإمارات، الكويت، البحرين، وعُمان. كما أنها تشمل اليمن ومصر عربياً، وتركيا وإيران.
جغرافياً، يمثل "الشرق الأوسط" واصلة عقد القارات القديمة الثلاث، الآسيوية والإفريقية والأوروبية، وهو يشرف على عدة بحار: الأبيض المتوسط، الأحمر، الأسود، ومرمرة. كما أنه متصل بالمحيطين، الأطلسي والهندي، ويسيطر على أهم مضائق التجارة العالمية، كمضيق باب المندب، وهرمز، وقناة السويس، والبوسفور والدردنيل. وتبلغ مساحته ملايين الكيلومترات، أما سكانه فمئات الملايين، وسبقت الإشارة إلى أنه يتمتع بمصادر طبيعية هائلة، فضلا عن تنوع جغرافي وتضاريسي مهم.
ما سلف حقائق تكفي وحدها لأن تجعل "الشرق الأوسط" محل أطماع القوى الاستعمارية الكبرى، وقد كان هذا هو الحال منذ قرون وما زال، غير أنها لا تكفي لتفسير هذا التكالب الشرس على هذه المنطقة، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار أن مصادر الطاقة لم تعد محصورةً فيها، وأن الممرات التجارية لم تعد حكرا عليها، أو أنها منظمة بقوانين واتفاقات دولية تضمن حرية الملاحة في مياهها. إذن، ما الذي يجعل لهذه المنطقة أهمية استراتيجية مضاعفة؟
خلال نقاشي وأصدقائي، كان لي رأي قد يساهم في تفسير جانبٍ مهم، غائب إلى حد كبير، في
سياق محاولة فهم هذا التكالب الغربي والشرقي على تلك المنطقة في العالم، ويتمثل في "وطأة الرمزية" التي تختزنها منطقة الشرق الأوسط، في إطارها الضيق الذي قدمناه أعلاه. وتتضمن "وطأة الرمزية" تلك حقيقة أنها مهد الأديان السماوية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام. ولكل أتباع ديانة فهمهم الخاص لدورهم ومكانتهم في هذا العالم وعبر التاريخ، وبالتالي، فإنهم لن يكفوا يصطرعون عليها. إنها مسألة مرتبطة بالهوية. وإذا كان أبناء الديانات الثلاث من أهل المنطقة قد انصهروا، تاريخياً، في بوتقة حضارية واحدة، هي الحضارة العربية الإسلامية، مع محافظة كل فئةٍ على دينها، فإن الغرب والشرق ضمن منظومة الشمال أسّسوا مشروعهم على أنهم نِدٌّ ومنافس، بل ومحل تهديد من منظومة الحضارة العربية والإسلامية. ولن تنسى أوروبا أن المسلمين هم من شكّلوا التهديد الأبرز لها تاريخياً، عسكرياً وحضارياً، وبأنهم استطاعوا أن ينفذوا إلى كثير من أجزائها في إسبانيا والبرتغال والبلقان ورومانيا وبلغاريا والنمسا وإيطاليا وفرنسا. كما لن ينسى عالم المسيحية الكاثوليكية والأرثوذكسية ضمن منظومة الشمال، أن المسلمين هم من أسقطوا الدولة الرومانية الشرقية "بيزنطة"، وفتحوا عاصمتها القسطنطينية، بعد أن فتحوا، قبل ذلك بثمانية قرون، القدس وطردوا البيزنطيين من بلاد الشام.
في المقابل، لن ينسى المسلمون أن أوروبا هي من أطلقت الحروب الصليبية ضدهم في القرون الوسطى، سافكة دماء عشرات الآلاف منهم، بل إنها حتى لم توفر اليهود والمسيحيين العرب. أيضا، ساهمت الإمبراطورية الروسية، بشكل كبير، في إنهاك الدولة العثمانية عبر حروب كثيرة وطويلة، ما أدى إلى انهيارها لاحقا. ثم جاء الاستعمار الأوروبي إلى المنطقة والوطن العربي، منذ أواخر القرن الثامن عشر، مستمراً عقوداً طويلة بعد ذلك، ارتكب خلالها أفظع الجرائم. دع عنك طبعاً انتزاع فلسطين من أهلها الأصليين، وإقامة دولة لليهود فيها، بمزاعم توراتية وقومية، تخفي وراءها أهدافاً استراتيجية أعمق، تهدف إلى إبقاء المنطقة مجزأة وضعيفة، حتى لا تقوم لها قائمة مرة أخرى. وعلى الرغم من موجات الاستقلال التي عرفتها دول المنطقة تباعاً، منذ منتصف القرن الماضي، إلا أن التأثير الغربي لم ينته يوماَ في هذا الجزء من العالم، بما في ذلك دعم أنظمة دكتاتورية، وتحديداً بعد تعبئة الولايات المتحدة الفراغ الذي خلفته القوى الاستعمارية الأوروبية التقليدية بعد الحرب العالمية الثانية، وتحول المنطقة إلى ساحة منافسة وصراع بين المعسكرين الغربي، بقيادة أميركية، والشرقي، بقيادة سوفييتية. ولم تمض إلا عقود قليلة، حتى كان الغربيون والروس يعودون إلى المنطقة، محتلين مباشرين، في العراق عام 2003، وفي سورية عام 2015.
باختصار، "وطأة الرمزية" هي ما تضاعف من جعل "الشرق الأوسط" منطقة تماس ساخن
ودموي بين المنظومتين، الحضارية العربية الإسلامية والغربية-الشرقية (عالم الشمال). فكل منهما ترى في الأخرى التحدّي الحضاري والوجودي الأبرز لها. صحيح أنه كانت هناك تحديات أخرى، كالتي مثّلها المغول، مثلا، للعالم الإسلامي، لكن تحديهم كان عسكرياً لا حضارياً. وكذلك، كان التحدّي الوجودي الذي شكلته، مثلا، القبائل الجرمانية للإمبراطورية الرومانية الغربية، وساهم في انهيارها، داخلياً. وهكذا، من يملك القدرة من أي المنظومتين على أن يمنع الأخرى أن تقوم لها قائمة لن يفوّتها، وهذا ما نراه اليوم واقعاً في منطقة الشرق الأوسط. تخيل لو أن هذه المنطقة التي تشكل قلب "عالم الإسلام"، وبما تملكه من إمكانات بشرية وثرواتية وجغرافية، وتراث حضاري هائل، لو أعيد ابتعاثه وتجديده، أتيحت لها فرصة الاندماج بناء على المعطيات السابقة.. تخيّل ما الذي سيحدث؟
هذه المنطقة مضطربة هائجة، تموج بالحروب والصراعات، تسفك فيها الدماء بلا حدود، تعاني الفقر والتخلف، ومنكوبةٌ بأنظمة قمعية تسلطية. ومع ذلك، ما زالت ترفض رفع راية الانكسار والهزيمة. هذه الطاقة المعنوية الهائلة التي تختزنها المنطقة، ويمثل الإسلام عمادها الأساس، هي ما يخيف منظومة الشمال من أن تتكامل يوماً مع إمكاناتها وقدراتها.
أو بعد ذلك، هل ثمّة من لا تزال لديه أوهام أنه سيُسمح، طوعاً، لهذه المنطقة من العالم أن تلتقط أنفاسها، وتسعى إلى إحداث تغيير إيجابي في بناها؟
بداية، لابد من ضبط سريع للمصطلح هنا. فلإقليم الشرق الأوسط، وهو إحالة استعمارية، عدة تعريفات جيوسياسية، قد تتسع دائرتها وقد تضيق. ولكن، وحتى لا نستغرق في أمرٍ جانبي في هذا السياق، أحصر الحديث هنا عن قلب "الشرق الأوسط"، والمتمثل في دول "الهلال الخصيب": العراق، سورية، الأردن، فلسطين، ولبنان. وكذلك دول الخليج العربي: السعودية، قطر، الإمارات، الكويت، البحرين، وعُمان. كما أنها تشمل اليمن ومصر عربياً، وتركيا وإيران.
جغرافياً، يمثل "الشرق الأوسط" واصلة عقد القارات القديمة الثلاث، الآسيوية والإفريقية والأوروبية، وهو يشرف على عدة بحار: الأبيض المتوسط، الأحمر، الأسود، ومرمرة. كما أنه متصل بالمحيطين، الأطلسي والهندي، ويسيطر على أهم مضائق التجارة العالمية، كمضيق باب المندب، وهرمز، وقناة السويس، والبوسفور والدردنيل. وتبلغ مساحته ملايين الكيلومترات، أما سكانه فمئات الملايين، وسبقت الإشارة إلى أنه يتمتع بمصادر طبيعية هائلة، فضلا عن تنوع جغرافي وتضاريسي مهم.
ما سلف حقائق تكفي وحدها لأن تجعل "الشرق الأوسط" محل أطماع القوى الاستعمارية الكبرى، وقد كان هذا هو الحال منذ قرون وما زال، غير أنها لا تكفي لتفسير هذا التكالب الشرس على هذه المنطقة، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار أن مصادر الطاقة لم تعد محصورةً فيها، وأن الممرات التجارية لم تعد حكرا عليها، أو أنها منظمة بقوانين واتفاقات دولية تضمن حرية الملاحة في مياهها. إذن، ما الذي يجعل لهذه المنطقة أهمية استراتيجية مضاعفة؟
خلال نقاشي وأصدقائي، كان لي رأي قد يساهم في تفسير جانبٍ مهم، غائب إلى حد كبير، في
في المقابل، لن ينسى المسلمون أن أوروبا هي من أطلقت الحروب الصليبية ضدهم في القرون الوسطى، سافكة دماء عشرات الآلاف منهم، بل إنها حتى لم توفر اليهود والمسيحيين العرب. أيضا، ساهمت الإمبراطورية الروسية، بشكل كبير، في إنهاك الدولة العثمانية عبر حروب كثيرة وطويلة، ما أدى إلى انهيارها لاحقا. ثم جاء الاستعمار الأوروبي إلى المنطقة والوطن العربي، منذ أواخر القرن الثامن عشر، مستمراً عقوداً طويلة بعد ذلك، ارتكب خلالها أفظع الجرائم. دع عنك طبعاً انتزاع فلسطين من أهلها الأصليين، وإقامة دولة لليهود فيها، بمزاعم توراتية وقومية، تخفي وراءها أهدافاً استراتيجية أعمق، تهدف إلى إبقاء المنطقة مجزأة وضعيفة، حتى لا تقوم لها قائمة مرة أخرى. وعلى الرغم من موجات الاستقلال التي عرفتها دول المنطقة تباعاً، منذ منتصف القرن الماضي، إلا أن التأثير الغربي لم ينته يوماَ في هذا الجزء من العالم، بما في ذلك دعم أنظمة دكتاتورية، وتحديداً بعد تعبئة الولايات المتحدة الفراغ الذي خلفته القوى الاستعمارية الأوروبية التقليدية بعد الحرب العالمية الثانية، وتحول المنطقة إلى ساحة منافسة وصراع بين المعسكرين الغربي، بقيادة أميركية، والشرقي، بقيادة سوفييتية. ولم تمض إلا عقود قليلة، حتى كان الغربيون والروس يعودون إلى المنطقة، محتلين مباشرين، في العراق عام 2003، وفي سورية عام 2015.
باختصار، "وطأة الرمزية" هي ما تضاعف من جعل "الشرق الأوسط" منطقة تماس ساخن
هذه المنطقة مضطربة هائجة، تموج بالحروب والصراعات، تسفك فيها الدماء بلا حدود، تعاني الفقر والتخلف، ومنكوبةٌ بأنظمة قمعية تسلطية. ومع ذلك، ما زالت ترفض رفع راية الانكسار والهزيمة. هذه الطاقة المعنوية الهائلة التي تختزنها المنطقة، ويمثل الإسلام عمادها الأساس، هي ما يخيف منظومة الشمال من أن تتكامل يوماً مع إمكاناتها وقدراتها.
أو بعد ذلك، هل ثمّة من لا تزال لديه أوهام أنه سيُسمح، طوعاً، لهذه المنطقة من العالم أن تلتقط أنفاسها، وتسعى إلى إحداث تغيير إيجابي في بناها؟