الصراع الإقليمي والدولي في المحيط العربي

22 مارس 2018
+ الخط -
لا نواجه اليوم في العالم العربي فشل الانفجارات التي حصلت قبل سبع سنوات، وعودة الاستعمار في صوره المجسدة في عديد من مظاهر التَّكَالُب الإقليمي والدولي على عالمنا، بل إننا نواجه، أيضاً، أشكالاً من العجز الذاتي الذي تكشف عنه مختلف صور الارتباك والتراجع الحاصلين في مختلف مظاهر حياتنا، والمتمثل أيضاً، في عجزنا عن إدراك المآلات التي آلت إليها أوضاعنا العامة.
لا نستثني أي مجتمع عربي من المواصفات التي سَطَّرْنَا، ونستطيع التأكد من كل ما أشرنا إليه، ونحن نتابع المناوشات المتواصلة بين دول الخليج، والتي لم تستطع جميع مبادرات الصلح الخليجية والدولية أن توقفها، أو تَحُدَّ من مخاطر استمرارها وتطوُّرها. أما في المغرب العربي، فنتبيَّن علامات العجز الكُلِّي في مسألة تفعيل اتحاد المغرب العربي ومؤسساته، وهو عجزٌ يتواصل باستمرارِ إغلاقِ الحدود بين المغرب والجزائر. وقد كنا، إلى عهد قريب، نعتقد أن يُساهم التوجه المذكور في ترتيب علاقة تفاعلٍ مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي، أو يلعب دوراً في مشاريع منتديات المتوسط الاقتصادية والاجتماعية، ومشاريع التواصل بين شمال المتوسط ووسط القارة الأفريقية، إلا أن الأبواب الموصدة لم يعد بإمكانها أن تفتح على معطيات المصير الليبي في مخاضاته المتواصلة.
يقدم واقع الحال في كل من سورية واليمن وليبيا، وما تعرفه باقي البلدان العربية من أوضاع 
متدهورة، يُقَدِّم الدليل على فشل مشاريع الإصلاح والتغيير، مشاريع مواجهة الاستبداد والفساد التي لاحت تباشيرها سنة 2011، مجسَّمَة في الانتفاضات الشَّبَابِيَّة التي تَغَنَّت بشعارات الحرية والكرامة والمساواة، وقد لا تكون هناك مبالغة لو اعتُبر أن ما أشير إليه يُقَدِّم الدليل على فشلنا التاريخي، في تدبير المتغيِّرات التي عرفتها مجتمعاتنا.
لقد بدا من الواضح اليوم أن كل ما وقع ويقع في سورية، من اختلاط في المواقف وتداخُل في المواقع، وتنافس على الأبعاد الرمزية والمادية لأيٍّ من عناوين الماضي والحاضر العربي يؤشر إلى إرادة سياسية تروم تقسيم المنطقة وتقاسُمِهَا، وعلامات ذلك باديةٌ في صور العزل والتشريد والتهجير، ثم صور التنكيل بشعبٍ تمهيداً لاقتسام أرضه.
لا أريد أن أنزلق نحو لغة البكائيات التي تملأ اليوم كثيراً من منابرنا ومواقعنا في الوسائط الاجتماعية، كما أنني لا أستطيع النظر إلى مختلف مظاهر الخراب الحاصلة بعيون الحِيَاد، أو التَّشَفِّي أو تبادُل اللَّوْم على أفعال حصلت، وعجزنا المكشوف في موضوع مواجهتها. ولأن العرب ينخرطون اليوم في معارك جديدة، من أجل توقيف مسلسل تأخرهم، فإنه ينبغي أن نقترب من الأحداث الجارية بكثير من الرَّوِيَّة، وكثير من التدقيق في عملية تشخيص ما جرى ويجري أمامنا وبيننا اليوم.
يكشف التدهور المستمر في الحالة العربية عجزنا عن مواجهة القِوَى الإقليمية والدولية، فقد تَخَطَّى الصراع المتواصل اليوم، في العراق وسورية وفي الخليج العربي، تَخَطَّى سياقات ما يُعْرَف بالربيع العربي وتَبِعَاتِه، وهو يرسم اليوم مواقفه ومواقعه في إطار أكبر، يتعلق بإعادة تأسيس موازين القِوَى الإقليمية والدولية، خارج معادلات الإصلاح والثورة ومواجهة الاستبداد والفساد.
وعلى الرغم من أننا نشاهد ما يجري في العالم في إطار تشكل النظام الدولي الجديد، ونعاين
أنماط التحول الجارية في شبكة المنظمات الدولية، إلا أننا نجد صعوبةً كبيرة في التواصل مع الأحداث والمعطيات، بحكم التناقضات العديدة التي فجرتها الخرائب في واقعنا، خرائب المدن وخرائب الوجدان المكلوم. وعندما تصدر عنا أحياناً بعض ردود الفعل، فإننا نمارس فيها أساليب وحيلا كثيرة لا ترفع من مردودية أدائنا التاريخي، لا في مستوى مواجهة ذواتنا، ولا في مستوى مواجهة الخصوم الذين يرسمون بأفعالهم ما يصنع مأزقنا الراهن، ولعلهم يتأملون أنماط ردود فعلنا، وَيُرَكِّبُون المواقف المناسبة لها، بهدف تطوير آليات اشتغالهم ومواصلة هيمنتهم.
الفاصل بين حدود التدخل الإقليمي والدولي وحدود الفعل الذاتي، فيما يقع اليوم في مجتمعنا وعلى أرضنا من المحيط إلى الخليج، يكاد لا يرى، بحكم أن الأحداث والوقائع التي نواجه تتسم باختلاط كثير. إنها تتعين بجملة من العوامل الجديدة والمركبة، كما ترتبط بسياقات التاريخ في مجراه العام، وتتصل بالاستراتيجيات التي تحسب حسابات الراهن والمستقبل، ومن دون إغفال مقتضيات المصالح مُمَثَّلَةً في النفط ومُجَسَّدَة في إسرائيل وحسابات أخرى إقليمية. لكن ألا تعتبر الحالة المختلطة في لحظاتٍ مماثِلة لحالتنا ظاهرة عامة؟
نقف اليوم، ونحن نواجه عجزنا وغطرسة المتربصين بأرضنا، أمام امتحان عسير، نواجه فيه ذاتنا المعتلة تاريخياً، كما نواجه قِوَى إقليمية ودولية بيننا وبينها حسابات تاريخية مركبة، قِوَى تمارس أدوارها الجديدة، وهي تساهم في ترتيب جوانب من المبادئ الكبرى لنظام دولي في طور التأسيس. وفي قلب المتاهات المرتبطة بمختلف العناصر التي ذكرنا، تحضر مقتضيات النهضة والتنوير في مجتمعنا، حيث لا يمكن تشخيص واستيعاب مظاهر مآزقنا في الراهن العربي، من دون بناء ذاتنا مجدداً، في ضوء أسس الأزمنة الحديثة ومقدماتها.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".