الشرفة… مرآة تكشف تغيّر العصور

27 نوفمبر 2016
الشرفات في الأبنية العالية تعويض عن غياب الحديقة (Getty)
+ الخط -
لم تكن الشرفة يوماً مُجرّد حالة زائدة عن كيان البيت المعماري الأصم. ولم تكن أيضاً مجرد مكان يدخل منه الضوء والهواء إلى البيوت المغلقة. ولو كانت كذلك فقط، لاستغنينا عنها بالنوافذ، ولما قمنا بأخذ مساحة من غرفنا، لأجل أن نضيف لبيوتنا هذه الشرفات.
الشرفات في الأبنية العالية والمتراصّة، هي التعويض الوحيد عن حديقة البيت التي كانت حاضرة بكل ورودها وأشجارها وعصافيرها وسمائها. إذ إنّها المكان الذي يجمع كل أفراد العائلة حول رائحة الورد والنارنج. وهي المكان الذي يعيد الطبيعة إلى العمارة الحديثة الإسمنتية، إذ إنّها تصبح مكاناً لوضع النباتات والورود.

أمّا اليوم، ولم نعد قادرين على امتلاك تلك الحديقة التي كانت قطعة من السماء في بيتنا، لم نعد قادرين على زراعة شجرة واحدة في شققنا الصغيرة والمعلّبة. لذلك، فإن هذه الشرفات هي مفتاحنا الحقيقي الوحيد على الخارج، على السماء الكاملة، على الهواء الطيب، فيها لسنا في سجن البيت، ونحن بأمان البيت في نفس الوقت. الشرفات امتداد أرواحنا، وهي أيضا نظرة الخارج إلينا. فالشرفة هي أول ملامح شخصيتنا التي تطل خارج حدودنا المقفلة. الشرفات هي رئة البيت التي يتنفس بها، وهي المكان الذي نطل منه على ما يعيش خارج أرواحنا، كما أنها المكان الذي نطل منه على أنفسنا أكثر.
منذُ أن بدأ فن العمارة، وبدء تقدمه وتنوعه، كانت الشرفات الدلالة على مدى رقيّ هذا الفن، ولأن الشرفة هي جزء من ملامحنا، اهتم القدماء بتزيين الشرفة بالزخارف والأحجار الملونة، وأحياناً الجدران الملبَّسة بالخشب أو السيراميك والرخام. بالإضافة إلى اللوحات التي زيّنت شرفات الأبنية التابعة لطبقات النبلاء والأغنياء، والتي لم تزل شواهد فنية مذهلة. ولأن الشرفة هي بقية الحديقة التي فقدناها، كان الورد دائماً يسكن فيها. ولعل فن العمارة الأندلسية كان من أكثر فنون العالم اهتماماً بحضور الورد في تفاصيله، واهتم الأندلسيون كثيراً بأنواع الورود ونباتات الزينة التي جعولها تملأ كل الشرفات.
لكن طريقة عرض الورود أو الزينة على الشرفات، تغيّرت تبعاً لتغير الثقافات ولتبدلات مفهومها، فمثلاً في أعياد الميلاد المجيدة، تمتلئ الشرفات بنجمات العيد وبأشجار عيد الميلاد وبابا نويل. وفي رمضان، تمتلئُ بالهلال المضاء وصور مصابيح رمضان الجميلة. بالإضافة إلى اختراع طرق غريبة لعرض ما نريد أن نعرضه في شرفاتنا. فمع عصر العولمة والانفتاح، تغيرت كل المفاهيم الجمالية والفكرية والأخلاقية، وانعكس هذا التغير على كل شيء بما فيه الشرفات.
ولكن ما لم يتوقعه المرء، هو أن تتحول فكرة زراعة الورود في الأواني الخاصة بها (أصائص) على الشرفات في مدريد، إلى زراعتها في سراويل "الجينز" مثبتة على الشرفة، وكأنها أرجل لعشرة أشخاص. وكأن الورود طالعة من خصر هؤلاء الأشخاص للدلالة على أن الورود هي طالعة من أجسادنا، وللدلالة على حالة من التحرر الفكري والاجتماعي الذي يصور الورود المزروعة في سراويل الجينز.
هو عصر جديد بشرفات جديدة وغريبة، لكن الورود وحدها مهما تغير لونها وشكلها، تبقى سيدة النشوة التي لا تموت.

دلالات
المساهمون