الشجاعية والسماقية وطقوس العيد الغائبة

28 يوليو 2014
في مطبخ غزّاوي (الصورة لمحمد عبد)/ AFP
+ الخط -
الشجاعيّة، أحد أحياء غزّة القديمة العريقة، ارتبطت في ذاكرتي بالرجال الأشدّاء ذوي الشوارب العريضة الكثيفة، تلك التي يلبس رجالها الكبار السراويل الشامية الواسعة المدكّكة. أُطلق عليها اسمُ "الشجاعية" لأسباب عدة، منها: شجاعة وجبروت رجالها، وأيضاً نسبةً الى "شجاع" الكرديّ الذي استشهد في معركة بين الأيوبيين والصليبيين.

يتجاوز عددُ سكّان الشجاعية مائة ألف نسمة، وتحتفظ بطقوسٍ خاصةٍ بها في الأفراح والأتراح والأعياد، أبرزها إعداد أكلة خاصة شهيرة تُدعى "السماقية".

"السماقية" أكلةٌ تُعدّ بكمياتٍ كبيرة، وتُقدّم في المناسبات، سواء السعيدة منها أو الحزينة: في العرس وأيام عيدَيّ الفطر والأضحى، وأيضاً في المآتم لثلاثة أيام. هي عادةٌ تناقلها سُكاّنُ غزة الأصليون، ثم ورثها عنهم باقي أهالي القطاع الذين انتقلوا إليه بعد نكبة عام 1948.

كعائلة لاجئة، تعرّفنا أخيراً على هذا الطبق اللذيذ الذي تعلمّتْ أمّي تحضيره من جاراتها المواطنات، على عكسنا، هنّ لسن لاجئات، وأتقنتها أمّي بعد فترة، فاستقلّت عنهن،ّ ولم تعد بحاجة الى إشراف الجارات على تحضيرها لـ"السماقية".

تدهورُ الوضع الاقتصادي مع الحصار على غزة ساهمَ في انتشار هذا الطبق. وعدم قدرة الأمّ على طهو أطباق تحتاج كميات من اللحم والدجاج دفعها إلى تحضير "السماقية" التي ساهمت في "إنقاذ ماء وجه أهل العريس" في اليوم السابق لحفل الزفاف، خاصةً بعد (السامر) أو حفل الشباب الذي يُقام في وسط الحارات والأزقة للاحتفال بالعريس. فبعد أن يكون التعب قد نال من الشباب الذين أدّوا الدبكة، ورقصوا فرحين بحبيبهم العريس، تُقدّم لهم السماقية كطعام للعشاء.

وانتقلت السماقية إلى بيوت العزاء أيضاً، لتُقدّم لثلاثة أيام كوجبة عشاء المعزّين، فيما يقوم أهل الخير بحمل بعض الأطعمة الى أهل الميت، وإن كانت قد تراجعت هذه العادة بسبب الوضع الاقتصادي السيء، فلم يعد يُؤخذ كثيراً بسنّة الرسول وقوله "أولموا لآل جعفر".

تتكوّن السماقية من كثير من المواد، ويكون لونها غامقاً. تشمل الحمّص وقطعاً صغيرة وقليلة من اللّحم والطحينة والبصل المفروم، وكذلك السّلق المفروم. يُغلى الطبق على النار حتى يتّخذ قواماً سميكاً فيُضاف إليه منقوع حبوب السّماق الذي يعطيه اللّون الغامق جداً والطّعم اللاذع المُحبّب.

يختصّ أهل الشجاعية، المعروفون بـ"الغزازوة" أي أهل غزّة الأصليون، بأكلة السماقية المُضاف إليها الكثير من الفلفل الحارق، مما يؤكد بأن لأهلها قوّة احتمالٍ جبارة.
لكنّ هذا العام، تبدلت حالُ شوارع الشجاعية التي شهدت مجزرةً قاسية، فخلت البيوت من رائحة السماقية ولم تَدُر الفتيات الصغيرات بأطباق الأكلة التقليديّة على الجارات المسِنّات.

صدّرت الشجاعية لكل أهل غزة هذه الأكلة الشعبية الغريبة في تكوينها، وحفظت ماء وجههم في الفرح والحزن، غير أن هذا العام لم يكن هناك من يقدم شيئاً للشجاعية، سوى الدعاء بالرحمة لشهدائها والعودة السريعة لمهجّريها.

المساهمون