الشباب والإرهاب.. منتج وطني أم عولمي

21 مايو 2015
عمل للفنان الفلسطيني السوري أسامة دياب
+ الخط -
وجود هذا العدد الكبير من الشباب العربي والسوري في قيادة وجسد التنظيمات الإرهابية التي نمت في ظل الربيع العربي، وتلك المنتشرة في كل مكان في العالم، يفرض علينا مقاربة شجاعة لمسألة الإرهاب، تبدأ من ضرورة الاعتراف بأن هذا الإرهاب ولد هنا بين ظهرانينا في أرض خصبة، قبل أن يتلقّى "أسمدة" خارجية ساعدته على النمو، إذ ثمة بذرة توفّرت لها شروط النمو شاملة، بدءاً من التربة التي شكلت ملاذاً لجذورها، وليس انتهاء بالهواء والشمس اللذين ساعداها على إتمام عملية "اليخضور الإرهابي" إن صح التعبير.

يتباهى بعض المدافعين عن جبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة المصنّف على لوائح الإرهاب عالمياً، بأن أغلب عناصرها من السوريين، في حين أن العكس هو ما يحكم تنظيم داعش، من دون أدنى رؤية من التحليل والتفكيك والخجل إن شئت، إذ تغض هذه الرؤية النظر عن كون "شبابنا" في ربقة الإرهاب، وكأن الإرهاب إن كان "وطنياً" يغدو مقبولاً وإن أصبح غريباً داعشياً يغدو غير مقبول! من دون أن نتناسى بطبيعة الحال التنظيمات الجهادية الأخرى التي تتفق مع النصرة في الأيديولوجية والاستراتيجية وتختلف معها بالتكتيك، لضرورات التمويل والبراغماتية أكثر من أية ضرورات أخرى.

وفي سعي هؤلاء لأن تصبح النصرة شريكاً مقبولاً دولياً يسعون لـ "تأهيلها"، وكيف؟ عبر فك ارتباطها بالقاعدة! وكأن المطلوب أن تغدو النصرة وغيرها "جيدة" في عين المجتمع الدولي، في حين تبقى أيديولوجيتها "الإرهابية" فاعلة في جسد الشعب السوري تفتيتاً وتوسيعاً لحواضن الإرهاب. إن التعامل الأداتي مع الإرهاب أحد أهم أسباب نموه وتجذره، وبالتالي دفع الشباب السوري نحو براثنه وهنا المشكلة التي يجب أن تعالج قبل أي شيء آخر.

إذا كان ثمة بذرة أولية للإرهاب، فهي تتجسد أساساً في هذا الكم الهائل من اللامعقول في التراث الديني المشرقي، إسلامياً ومسيحياً ويهودياً وأقليات، الحافل بالتكفير والإقصاء والشيطنة لكل حامل دين مغاير، والذي لم يعمل به مبضع النقد بعد، وهو يدرّس في المؤسسات الدينية على اختلاف أشكالها، ليخرّج لنا أجيالاً تحمل هذه البذرة التي تنتظر أرضها وشمسها، لكي تنتشي وتورق إرهاباً.

مشكلة هذه البذرة هنا في كونها تحمل الديني الروحي بما يشكل من حاجة للبشر مع الموروث بشقيه الإيجابي والسلبي الذي صنعه البشر في احتكاكهم وتجادلهم اليومي مع الديني من جهة، ومع سعيهم لتفسير هذا الديني وإخضاعه لمصالحهم وتغيّرات الواقع من حولهم، مما شكل أداة استخدمتها المؤسسات الدينية والسلطات في تخدير البشر، مستفيدة من تأخر عملية الإصلاح الديني عربياً، تلك العملية التي تعتبر مدخلاً للحداثة، وطريقاً إجبارياً لدخول العصر الحديث الذي لم نزل خارجه منذ قرون. من دون تعمّق الإصلاح الديني وترسخه ستبقى كل حركات الإصلاح السياسي والثورات عاجزة عن إحداث تغيير جذري، لأن السلطة بطبعها (أية سلطة) ستعيد إنتاج نفسها، استنادا لهذا الوعي السلبي الكامن في مجتمع يكرّر هزائمه ويعيد إنتاج استبداده. لا ثورة حقيقية من دون إصلاح ديني عميق الجذور، وبهذا يربح الدين وتربح الثورة.
تشكل التربة التي تنمو بها هذه البذرة جملة العوامل المحلية المساعدة على نمو البذرة، بدءاً من جهل المجتمع وضعف مؤسسات التعليم المدني مقابل قوة مؤسسات التعليم الديني واستبداد السلطة التي تتغوّل في العنف وقتل الحرية ومصادرة الفكر الحر، والضغط على أرزاق الناس، دافعة إياهم إلى التقوقع في الملاذ الديني، الحامل مورثة الاستبداد والصفاء الروحي في آن، والذي يقدّم عزاء روحياً لهم، وفي الأحياء الفقيرة المحيطة بالمدن المحرومة من أبسط مقومات الحياة، في ظل قمع سياسي ممنهج يقدّم الأهلي المادون وطني ويقصي المدني، لتتشكل الشخصية القابلة للاستخدام من قبل سلطات دينية بمطامح سياسية وسلطات مستعدة لفعل كل شيء كي تبقى في السلطة، فتعمل الثانية على إدارة الأولى بما يساعدها على توسيع صناعة الإرهاب واستقطاب الشباب، مع إبقائه تحت السيطرة للاستخدام الآداتي، ففي أوقات "الاستقرار" تفعل أيديولوجية "الإرهاب" فعلها في تخويف الجماهير من إرهابيين كامنين ومستعدين لتخريب استقرارنا، لتبرير بطش السلطة وقانون طوارئها وإرهابها في مستوى أول، ولتخويف الشعب الذي يطلب أي استقرار خوفاً من "البرابرة". هنا لا تتوّرع السلطات عن الإعلان بين الفينة والأخرى عن الإعلان عن القبض على إرهابيين أو استغلال عمليات حصلت هنا وهناك مع وجود شك كبير بأنها مفتعلة من قبلها، لإبقاء الجميع تحت سيف إرهابها، خوفاً من إرهاب غير محدّد المعالم، لا تتوّرع مرة أخرى عن استخدامه في ساحات الجوار كما في العراق ولبنان، فضلاً عن استخدامه بوجه الغرب، حيث تقدّم تلك السلطات نفسها على أنها خط الدفاع الأول عنه بوجه الإرهاب، فيختار الغرب الاستبداد خوفاً من الإرهاب، وهو ما يوصلنا إلى "الأسمدة" الخارجية التي تغذي الإرهاب.
 التحولات التي فرضتها العولمة تركت أثرها في كل مكان، إذ ثمة سلطة عالمية مركزية تتحكم بدورها بكل منافذ العالم، محددة الخير والشر على هواها، فعلى المستوى الاقتصادي تتحوّل بلدان العالم الثالث إلى أحياء هامشية بالنسبة للدول المركزية تشبه أحزمة الفقر التي تزنّر المدن العربية، في حين تغدو السلطة العالمية، مجلس الأمن والدول الثماني، بمثابة سلطة دكتاتورية كبرى تجيّر الدكتاتوريات الصغرى لصالحها بشكل مباشر أو غير مباشر، الأمر الذي يجعل فقراء هذه الدكتاتوريات معرضين لضغط قوة سلطاتهم المستبدة التي تحدثنا عنها في الأعلى، ولضغط سلطات المركز العولمي التي تذكرهم كل لحظة بجرحهم ودونيتهم وجهلهم ولا مركزية دينهم وضعف حيلتهم في ظل دعم تلك القوى لمستبدهم ولإسرائيل التي تشكل عربدتها جرحاً عربياً إسلامياً، فيغدو الفصام مضاعفاً، ودوافع الرد أكبر، بل يغدو الرد على الشيطان الأكبر "أميركا" أهم من الرد على المستبدين الصغار، والذين لن ينجوا بدورهم من توجيه سهام الإرهاب إليهم حين تخرج اللعبة من أيديهم، لصالح اللاعبين الكبار الذين لن يتوّرعوا أيضا عن استخدام الإرهاب أداة لزعزعة الدول، لتصبح الأبواب مشرعة، حيث يلتقي الاستبداد السلطوي والعالمي في تسريع نمو بذور الإرهاب، كآلية رد من المجتمعات المهزومة على كل هذا العسف الذي تتلقاه، لأنه سلاحها الوحيد، فنصبح إزاء دائرة مغلقة وقودها الشباب الغارق في دوامة الإرهاب والعنف، ومن يخرج منها تتلقفه قوارب الموت.

ما سبق يحتم علينا، قبل التفكير بتأهيل "جبهة النصرة" وغيرها لتصبح مقبولة غربياً، أن نفكر في كيفية تأهيلها لتصبح مقبولة شعبياً، وذلك لا يكون إلا عبر استراتيجية طويلة الأمد تبدأ من البحث عن كيفية تفعيل حركة الإصلاح الديني لإقصاء الموروث الديني اللاعقلاني لصالح بقاء الدين كملاذ روحي للبشر، بالتوازي مع السعي لوضع أسس حقيقية لولادة دولة مدنية علمانية تعقلن السلطة فيها، كي تكون مؤهلة لمواجهة سلطة العولمة ومنعها من أن تفعل فعلها في الداخل.


(سورية)
المساهمون