الشاعر في الضوء: في الفضيحة

10 مايو 2016
الفنان الفرنسي أوديلون رودون (Getty)
+ الخط -
                                         -1-

الشاعرُ - والكاتبُ عمومًا - عندما ينشر كتابًا، والتشكيلي عندما يُعلّق لوحاتِه للعرض، والسينمائيُّ عند إطلاق العرض الأول لفيلمه، والمسرحيُّ مع عرض "جنرال" للصحافة والأصدقاء ثم عرض أول للجمهور، كيف يكون شعور كل من هؤلاء في لحظة إطلاق "منجزهم" من "عتمتِهم" إلى الضوء؟

عندما كنت قد أصدرت مجموعتي الرابعة، "رأسُ الشاعر"، التي وجدتُها فجأة، بين أيدي "قُرّاء" (ولا أقول القراء)، كان شعوري شعور من ينطوي على مشاعر مختلطة، ملتبسة، مزيج من المشاعر المتضاربة: شيء من الفرح لما جرى "إنجازه" إذا جاز القول بإنجاز ما. شيء من الحب لهذا المولود الجديد، الذي عشتُ معه شهورًا وسنوات لأجعله على ما هو عليه آنذاك، وخضتُ به مخاضاتٍ ومتاهاتٍ كان لا بُدّ من أن تنتهي إلى ما انتهيتُ إليه مع هذا "الكائن" اللغوي.

ولكن، هناك سؤالٌ يحمل مرارةً ما: ماذا لو اشتغلتُ أكثر على هذا العمل؟ شذّبتُه وأجريتُ المزيدَ من التنقيح، ووو. هل كان سيكون أفضل؟ بالتأكيد، تقول مشاعري، ويقول عقلي أيضًا. لكنّ عقلي يقول أيضًا إنّ الكمال في أيّ عمل فنيّ أو أدبيّ، هو حلم لا يمكن تحقيقه. وعليه، فمهما حاولتُ تأجيل صدوره، ومهما اشتغلتُ عليه، سيظل ناقصًا، وسيظل قابلًا لمراجعات لا تنتهي، ولا بدّ من صدوره في نهاية الأمر، لأرى صداه ووَقعَه قبل موتي. لأرى وأسمع ما يقال فيه وعنه.
هذا ما كنت أشعر به، أيضًا، مع كل كتاب من كتبي السابقة، بعد صدوره، وما يصدر من ردّات فعل عليه. ورغم أنني لا أستطيع أن أجزم بمدى ما قدّمتْه لي الآراء التي سمعتُها أو قرأتُها، حول مجموعتي السابقة "الطفل إذ يمضي" مثلًا، إلا أنني أجزم تماما بأنني قد نسيت، الآن، كل ما قيل وما كتب، ولم يبقَ منه سوى الانطباعات الأولية والعُروض السريعة التي تلتقط العابرَ فقط، ولا تسعى إلى العُمق. ربما كنت ممّن يعتقدون أن كتبهم لم تُقرأ بصورة نقدية معمّقة. لقد جرَتْ قراءتُها على نحو "إعلاني" لا يقدم للكاتب الفائدة المرجوة من القراءة.

وبعض القراءات كان فيه قدر من التجنّي على التجربة. ولهذا لا أشعر بأنني أنتظر، الآن، كما كنت أنتظر سابقًا، ردّات الفعل المختلفة.

في الحقيقة، الآن وبعد مرور ثلاث سنوات على صدور "رأس الشاعر"، أشعر بشيء من الاكتئاب لصدوره، أكثر من تلك الحالات التي أصابتني عند صدور مجموعاتي السابقة، حتى أنني، قبل لحظاتٍ قليلة، كنت أتمنى لو امتلكتُ الجرأة لأطلب من الناشر ألا يوزّعه، أن يكتفي بالإعلان عنه فقط. لا أريد أن يقرأه أحد، أعرف القراءات السريعة والعابرة، فأنا نفسي بتُّ قليلا ما أقرأ بشغف، بجدية وعمق، باستثناءات قليلة جدا طبعًا.

هل هي حال من اليأس؟ اليأس من القدرة على تقديم الجديد والإضافة المدهشة؟ تقديم الممتع المفيد الذي يبقى؟ غالبًا الأمر كذلك. ولو أن هذا الشعور يتملّكني دومًا، لكففتُ عن الكتابة تمامًا. لبحثت لي عن وسيلةٍ للتعبير غير الشعر الذي لا أجيد سواه، حتى لو لم تكن هذه الإجادةُ كافيةً لتُقنعني بالاستمرار. إجادة ناقصة نقصانًا ينبغي أن يدفع إلى الصمت.
ينبغي.. لكنّ ما يحدث واقعًا، هو أنني أحلم دائمًا بتجاوز ما قدّمتُ، بالذهاب إلى تلك المنطقة من العالم/ الحياة، التي لم تطأها قَدَما شاعرٍ قَبْلي، منطقة المحرَّم التي أسعى إلى فَضّ بَكارتِها. المحرّم الذي يكشفُ خبايا الكون وأسئلته الوجودية والفلسفية، فضلًا عن الحياتية اليومية، والعلاقة بين اليومي العابر والجَوهريّ المُقيم المتجذّر. 

ما دُمتُ قد قبلتُ، بل بمحض إرادتي اخترتُ، تحدّيَ أن أكونَ شاعرًا، أقول لنفسي، فعليّ الاستمرارُ في ذلك مهما كان الثمن، ومهما كانت النتيجة. لذا ستظل عملية التجريب، ومحاولة إضافة ولو جملة في كتاب الشعر، هاجسًا مُلحًّا في مسيرة ستنتهي يومًا ما.

                                            -2-

يقول الكاتب الأوروغواياني، كارلوس ليسكانو، في كتابه "الكاتب والآخر"، (ترجمة نهى أبو عرقوب): "أن تكتب، يعني أن تبحث عمّا لن تجده أبدًا". ويضيف "أن يكتب المرء، هو أن يروي لنفسه حياةً؛ لأنّ الحياة التي يحياها لا تروقه. أن يكتبَ، هو أن يرغب في الاختلاف عن الآخرين، أن يؤمن بأنّه يمثّلُ شيئًا ما، بأن عنده ما يقوله للآخرين. وهذا ليس صحيحًا؛ إذ ليس لديه أيّ شيء ليقوله أبدًا. عليه أن يسكت من البداية حتى النهاية، أن يمضي دون ضجيج، أن يموت دون أن يلحظ أحد ذلك، أن يبقى ممدّدًا في زاوية إلى أن يتحلّل كلّيًا. وللانتهاء من هذه المشكلة، ربّما عليه ألا يوجد، ألا يكون قد وُجد قط، ألا يكون له اسم، ولا بيت، ولا عائلة، ولا وطن. أن يهجر الكلام. ألّا يكون".

ونختم بقوله "ليست القضيّة أنني لا أستطيع هجر الكتابة، بل إنّه لا يوجد لدي شيء آخر أتعلّق به. إن أنا حذفتُ السّاعات التي أمضيها في الكتابة، وفي التفكير في ما عليّ أن أكتبه، وفي تدوين ملاحظاتٍ من أجل الكتابة - إن طرحت هذه السّاعات - فإنّه، ودون مبالغة، لا يبقى أيّ شيء في حياتي؛ أيّ شيء على الإطلاق".

                                         -3-

"رأس الشاعر": رحيل بين الواقعي والأسطوري

رحلة في أعماق الذات، وتأملات الذات في أدغال العالم ومتاهاته. رحلة سرد التشابك القائم بين الذات والعالم، الذات في عزلتها، وفي اشتباكها مع الوجود بخليط مكوناته، في المكان الواقعي والحلمي، والزمان بتتابعاته وتجليات حضاراته ومنجزاته وانهياراته. هي رحلة شاقة، وسيرة واقعية/ أسطورية، متعددة الأبعاد والصور، لكنها، في النهاية، صورة من صور التعبير عن عملية "خلق" وتكوين، ثم تحولات هذا الكائن الذي يسكن الشاعر، في رحلته بين الولادة والموت.
في "رأس الشاعر" تعميق لحالة البحث التي قمت بها في مجموعتي السابقة "الطفل إذ يمضي". وإذا كنت في "غبار الشخص" قد لملمتُ شظايا الكائن من محطات الرحلة، فقد سعيت في "الطفل.." إلى توضيح ملامح هذا الكائن، بدءا من الطفولة حتى الكهولة. وتأتي "رأس الشاعر" لتستكمل تلك الملامح بقدر من التعمق في تأمل الذات، وإطلاق هذه الذات لتنبش ذكرياتِها مع العالم، ورؤيتَها له، انطلاقا من رأس الشاعر المدجج بالصور والمشاهدات، بالأحلام والانكسارات والهزائم، لكنه الرأس المهجوس بتغيير العالم، الرأس العنيد والضعيف إنسانيًا في آن. هنا تحضر المرأة الرمز والأسطورة، والوطن الواقعي والحُلُمي. 

ذلك كله استدعى جمع ما يشكل رؤية موحدة للذات وللعالم، تجسد مسيرة الفرد في خضم الكون والكائنات، لأخلص إلى صورة هذا الكائن، في لغته ومفرداته الخاصة، وفي إطار التركيز على ما يجسد الرؤية شعريا، دون المبالغات العقيمة للبلاغة.
المساهمون