الشارع العربي يردّ على النكبة

18 مايو 2015
"أسماء المهجرين"، رنا بشارة، صبّار ترشيحاوي مجفف
+ الخط -

يتجدّد رثاء فلسطين في ذكرى النكبة، بما قد يعفي المثقف والسياسي من حكمة التأمل في ضرورات الحرب الطويلة النفس. لكن النكبة لم تكسر ظهر الفتى العربي رغم الألم الطويل.

 لقد رفع شباب الربيع العربي شعار "الشعب يريد تحرير فلسطين" مع شعارات تحرير أقطارهم من الدكتاتورية. كيف ربطوا بين الحرية في الأقطار والحرية في فلسطين؟ إن رفع هذا الشعار، كان أقوى ردّ على النكبة بعد 65 عاماً. هذا مفتاح فهم حكمة الحرب الطويلة النفس باستيعاب الضربة وتفادي أثرها السلبي ثم النهوض المنقذ.

لم يكن احتلال الأرض إلا قشرة خارجية للاحتلال، فقد اشتغلت ماكيناته على النسيان وبرمجة ذاكرة الفلسطيني أولاً والعربي لاحقاً على نسيان أرضه وقضيته. غير أن هذه الذاكرة استعصت على المسح. إن تغيير مناهج الدراسة في الأرض المحتلة، وتخفيف جرعة الوطنية في برامج المدرسة العربية لم يفلح في جعل فلسطين هامشاً في كتاب قديم.

قد يُجري الفلسطيني مقارناته الخاصة ببقية العرب. لكنه لم يصل بعد إلى المدة الزمنية التي خضعت لها بقية الأقطار للاحتلال ثم قاومت وتحرّرت. يجد في ذلك التاريخ عبرة وقدوة، عندما يتحدث مع الجزائري، فيذكره بطول مدة الاستعمار وعمليات مسح الذاكرة بالفرنسة وقتل اللغة العربية في قلوب الجزائريين، لكن الاستعمار انتهى ولو بعد قرن وثلث القرن. فهل يستسلم الفلسطيني لمسح الذاكرة؟

كل ما فعله الاحتلال هو تذكير الفلسطيني بفلسطينيته. وتذكير العربي بأن القضية ليست فلسطينية بل إنسانية. المخيمات واللجوء والحروب المتكررة في دول الطوق على اللاجئ الفلسطيني لم تزده إلا رغبة في العودة وإصراراً عليها. أما خطاب التحرّر العربي الذي شحن الآداب والفنون، وتبنته المؤسسات المدنية كالنقابات والجمعيات، فكان دائماً يستجيب بقوة وحماس لتذكير العربي والفلسطيني بقضيته.

يختلف مقدار الإخلاص من شخصية إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر. والأنظمة السياسية القائمة منذ النكبة باعت واشترت في الدم الفلسطيني، لكن محرار وطنيتها - ولو نفاقاً - كان يظهر في إعلان تعاطفها مع القضية. لقد غفرت صواريخ صدام، على الأرض المحتلة، قبضته الغاشمة على العراق. واستجدت عائلة الأسد شرعيتها منذ وجودها بادعاء الممانعة. أما الملك السعودي الوحيد المحبوب، فهو الذي وضع النفط سلاحاً في معركة التحرير.

ظلت فلسطين مقياس الوطنية والانتماء، وفشل العدو في معركة الذاكرة، لذلك كله ظلت تربك الراغبين في مسحها. فلما انفجر الربيع العربي امتزجت مطالب الحرية في الأقطار بواجب تحرير فلسطين، بل طغى شعار "تحرير فلسطين"- في لحظة معينة- على بقية الشعارات، وانطلقت القوافل من كل مكان إلى غزة عبر الفجوة الوحيدة واليتيمة في تاريخ المنطقة التي فتحها المصريون تحت حكم مرسي، فمرّ المتضامنون حجيجاً إلى غزة.

لا يتعلق الأمر بقياس مقادير التضامن وترتيب المتضامنين، ولكنّ رفع شعار "الشعب يريد تحرير فلسطين"، كشف أن معركة الذاكرة انتهت لصالح الفلسطيني، وأن معركة التحرير الطويلة تجري لصالح الأجيال التي تتربى على ضرورة التحرير، وأن خطاب التسويات، وإن تبنته شريحة فلسطينية وعملت عليه ضمن الحد الأدنى المعيشي تحت ظروف الحصار الدولي وتفكيك احتمالات الثورة العربية لن يمر.

لقد بث خطاب التسوية الكثير من الإحباط وجعل مقولات "ليس بالإمكان أفضل مما هو متاح" تغلب على خطاب المهرولين إلى إنهاء المعركة على الأرض، لكنهم، وهم يهرولون إلى أحضان عدوهم يغفلون أن الذاكرة الفلسطينية خصوصاً والعربية عموماً حية ومتوترة تتصيّد فرص التعبير عن نفسها في مظاهرة أو قافلة تضامن أو في شعار يتخلل الاحتفالات المدرسية.

لقد خسر العدو معركة الرموز والمعاني، حتى صار كل اقتراب منه عاراً ومذلة. إنه العدو وإن تبسّط المهرولون معه في الحديث. وفي حرب الذاكرة والبقاء، تظل فلسطين تصنع الأبطال، تقوم من النكبة على التحرير، وتصلب عودها بذاكرة لا تلين، وقد رفدها الشباب العربي بأمل لا ينثني، فالشعب منذ 1948 يريد تحرير فلسطين.


(كاتب وأستاذ علم اجتماع من تونس)

دلالات
المساهمون