الشارع الخلفي

12 نوفمبر 2014

يتبدّل حالها حين تنقطع الكهرباء في مساءات غزة (Getty)

+ الخط -

ليست قصة فيلم "فاني هيرست"، لكنها قصة الشارع الخلفي الذي تطل عليه غرفة نومي، حيث استطعت، طوال سنوات، أن أرى، بواسطة أذني، ما لم تره عيناي. فيه يقع بيتها القرميدي الذي استنتجت أنه كذلك؛ لأنني أسمع نقر المطر فوقه، ومن صوتها أصبح لدي اطلاع على كل حياتها، حيث جاورتها منذ أزيد من خمسة عشر عاماً.

تزوجت صغيرة السن، ولم تجد أمامها عملاً سوى إنجاب الصغار، حتى أصبح لديها عشرة منهم، تمضي طوال وقتها في هذا البيت القرميدي، أسمعها وهي في مطبخها تعد "الزوادة" لزوجها في الصباح الباكر، فتدقّ السلطة في الزبدية الفخارية، ويذهب الزوج إلى عمله الذي أخاله لا يكفي لقوت يومهم، فيما تنشغل بصغارها الذين يبكون ويولولون ويضحكون، في أصوات متداخلة، ولا تتوقف هي عن نهرهم أو الدعاء عليهم بالويل والثبور. وفي مرات قليلة، أسمعها تغني لأحدهم، أو تهدهده حتى ينام، لكنها، في كل حالاتها، لا تكف عن الشكوى والأنين طول النهار، ولا تكف عن ترديد عبارة: يا الله، لم أسمع يوماً شخصاً زارها، أو صوتاً غريباً لأحد تحدث معها، باستثناء صوت زوجها، الآمر الناهي، وأصوات الصغار، والتي بت قادرة على تمييزها، فأحدث نفسي: هذا صوت منى، وذاك صوت أحلام.

يتبدّل حالها حين تنقطع الكهرباء في مساءات غزة، فتتحول إنسانة أخرى، تجمع صغارها، كما صيصان الدجاجة في قنّ قذر، وتجلس في باحة البيت الذي تظلله دالية عنب عتيقة، وتبدأ تروي لهم قصصاً وحكايات، ثم تغني لهم، وتنشد كل ما في جعبتها من أناشيد، وقد فوجئت بأنها تحفظ أغاني وأناشيد شعبية ووطنية كثيرة، ربما طوتها ذاكرتي، ثم تتحول إلى أغاني العرس الفلسطيني، وكأن بيتها ستخرج منه عروس، وتؤمن على غنائها بإطلاق الزغاريد، وتستمر على هذا الحال، حتى تعود الكهرباء مع منتصف الليل، فتدخل الصغار الذين شاركوها هذا "المهرجان" إلى غرفهم، وتعود إلى الصراخ والزجر والتبرم ثانية.

لم تتغير عادتها ولو ليوم، واحترت في تصنيف شخصيتها، سعيدة أم حزينة؟ لكن، خلصت إلى أنها مثلي، تستغل الأضواء الساطعة من البناية العالية المقابلة لبيتها ولبيتي، والتي تبدو مثل وحش أسطوري في الحيّ؛ لأن الكهرباء لا تنقطع عنها، بسبب وجود محطة تقوية لإرسال الهاتف الخلويّ، وضعتها شركة الاتصالات، بعد استئجار السطح من صاحب البناية. وهكذا، فهي تستغل هذه الأضواء لتعسكر مع صغارها قبالتها، حتى يعود الزوج، فلا تستخدم الشموع ولا بطاريات اليد، وقد توقف سكان الحي عن إرسال الشكاوي ضد شركة الاتصالات خوفاً على صغارهم من سرطانٍ ثبت أنه تسببه محطات التقوية القريبة من البيوت المليئة بالأطفال،  لأنهم عملوا بالمثل "أحيني اليوم وأمتني غداً"، فهم يستفيدون من إنارة البناية، وصرت مثلهم، حيث يجتمع أولادي في ليالي انقطاع الكهرباء في غرفتي المشعة نوراً، والتي تطل مباشرة على البناية، ويزدحم أولادي فوق سريري المرتفع عن المعتاد، وبالمصادفة الطيبة، بحيث يكون بموازاة نافذة الغرفة الكبيرة المقابلة للبناية.

أحسنت استغلال هذه الميزة في ليالي انقطاع الكهرباء، فأشرع النافذة في الليالي الصيفية؛ ليهب الهواء المنعش، وأغلقها في ليالي الشتاء، وأترك ضوء البناية المقابلة يتسلل من زجاجها، وأمنع الهواء البارد من الدخول فيما نتحدث ونضحك ونراجع الدروس حتى عودة الكهرباء.

في "الشارع الخلفي"، بطولة شادية وصلاح ذو الفقار، احتفظ البطل بحبيبته في الشارع الخلفي لبيت حبيبها سنوات طويلة، حتى وفاته، فاحتوى الشارع الخلفي الهادئ قصة حب وتضحية، لكن الشارع الخلفي، الصاخب في الحي الذي أقيم فيه، ما زال يحتفظ بسرّ المرأة صاحبة البيت القرميدي، وسرّ صمودنا، أنا وأهل الحي، على الرغم من ليالي انقطاع الكهرباء الطويلة، والقاتلة، منذ سنوات.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.