الشأن الحقوقي والمقاربة الأمنيّة المغربيّة
يبدو أن العقل الأمني المغربي ماضٍ بإصرار كبير وإرادوية مثيرة في الاتجاه المعاكس للمنطق الديمقراطي، يحرق كل سفن نجاته التي كانت تحقق بعض الاختراقات، ويبدد جميع أوراقه الرابحة التي كانت تدر عليه، بين فينة وأخرى، بعض النقاط الإيجابية، عبر توظيف المغرب الرسمي لسجل حقوق الإنسان.
وعلى الرغم من قرع أجراس الخطر والتحذير داخلياً وخارجياً، لا صوت اليوم يعلو فوق صوت المنع والتهديد، والنزق والانفعال، وأمام اشتداد الخناق المحكم الذي وضع نفسه فيه، وتصيّد المناوئين لأخطائه الكثيرة وتضخيمها، تحوّل الوضع إلى شبه عزلة سلبية في سياق أصبح أقل تقبّلاً واحتمالاً له، ستكون لها من دون شك نتائج ملموسة، إبان الاستحقاقات الدولية والأممية القادمة، التي من شأنها أن تضع المغرب في اختبارات عسيرة من جديد (مثال: قَطَع مجلس الأمن موعداً لإجراء تغيير في إطار المفاوضات لشهر أبريل/ نيسان من سنة 2015).
أكدت الوقائع أنه كلما اهتزّ الحاجز النفسي والأخلاقي والقانوني لضمان عدم عودة الدولة إلى سابق تصرفاتها، تصاعد إلقاء الضوء الكاشف على التراجعات والخروق، مهما كانت صغيرة. المتتبع لمجموع تصرفات الدولة على امتداد التراب يكشف عن رغبة في قطع حبل السرّة مع جلّ الحركات الاجتماعية، وتجفيف منابعها بعد الحراكين، الداخلي والإقليمي، لما عُرف بـ"الربيع العربي"، وعزل بعض الجمعيات الحقوقية بعينها، والتي كانت لها بصماتها في هذا الحراك، والعمل على التطبيع مع هذا الإجراء من لدن جزء آخر، أقل ممانعة وأكثر "تفهّماً" لإكراهات الدولة، من هذا النسيج الحقوقي، حتى أضحى الأمر يتجاوز بكثير أطروحة اللاخطية التصاعدية للانتقال الديمقراطي، لكونه تمريناً معقداً، أو مقولة أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد تصرفات معزولة في الزمان والمكان، وأن الخروق ليست منهجية، وإن كانت عديدة ومتكررة!
فما الذي تغيّر، مثلاً، في موقف "الجمعية المغربية لحقوق الإنسان" وتكوينات أخرى لا تقل أهمية عنها، حتى تُشٓن عليها هذه الحرب غير المسبوقة، وهي المعروفة منذ كانت، بمواقفها العديدة من قضايا تثير جدلاً كبيراً، متوسلة في ذلك المرجعية الكونية والشمولية لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية، ومعتمدة على مبادئها المعروفة من جماهيرية واستقلالية وديمقراطية وتقدمية، وأصبحت، مع مجموع التراكمات التي حققتها، مرجعاً موثوقاً لكبريات المنظمات الدولية، بل وللأمم المتحدة نفسها، وأضحت تتمتع بمصداقية كبيرة، وحصول الرئيسة السابقة للجمعية على جائزة أممية رفيعة دليل على ذلك؟ ما الذي يجعل وزيراً للداخلية، وبدون سابق إنذار، يغرف في خطاباته من معجم التخوين، والمؤامرة، وخدمة أجندات دول أجنبية، ونعتها بالكيانات الدخيلة، وأن يصرح، وبدون أن يرف له جفن، بعدم السماح للجمعيات التي لا تتقاسم مع الدولة نظرتها الرسمية باستعمال القاعات العمومية؟ وهو الأمر الذي خلّف ما يناهز 51 منعاً حتى اللحظة.
أمام كل هذه المضايقات الممنهجة للعقل الأمني التي لا تحترم قانون المغرب الرسمي نفسه، وبشكل مفارق، يسعى الأخير جاهداً ومهما كلّفه ذلك من ثمن، إلى تلميع صورته دولياً، وتسويق نموذجه "الفريد" في المنطقة (مثال تنظيم المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان بمراكش)! ولا سيما أن ورقة حقوق الإنسان باتت ضاغطة على المستوى الدولي وفي قضية الصحراء بالضبط، بالنظر إلى ما تعرفه هذه الأخيرة من تطورات ليست في صالح المغرب.
لذلك، استحوذ على العقل الأمني وسواس البحث عن الإجماع من جديد، واستعادت أسطوانة توحيد الجبهة الداخلية، ولو بأدوات الإكراه والقهر العارية، لتحييدهم وإضعاف تأثيرهم بعيداً عن آليات الإقناع والاقتناع، في تجاهل تام لمعطى أن الإطارات الحقوقية ليست معارضة سياسية، ولا ينبغي لها أن تكون إطارات لا تسري عليها معادلة الإدماج والتأميم، وإن نجح في ذلك بشكل كبير على مستوى استقطاب بعض رموزها وإفراغها من بعض كوادرها، لكن عملية الاستخلاف والتنخيب، الدائرة بكل انسيابية داخل هذه الجمعيات، حالت دون ذلك، لتتحول إلى آخر معاقل الاستقلالية والممانعة في البلد، وصاحبة رأسمال رمزي وأخلاقي، وضمير يقظ، لم يجد معها العقل الأمني بُداً من الوصول إلى المواجهة، بدون قفازات تجلّت في منع عملي أو تقني لا لبس فيه.
فهل انكشفت السلطوية المتوارية، التي تعود إلى مدة طويلة، وفقدت السيطرة على أعصابها؟ هل انفضح تقهقر المغرب، وسقط في الديكتاتورية الفجّة، وضاع كل الجهد المبذول على علاته، الذي بدأ مع تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، وانتهى بنسخ كل التطورات المستحسنة نسبياً في هذا المجال، بما في ذلك دستور 2011 الذي خصص باباً للحريات والحقوق الأساسية المتضمن لـ21 فصلاً.