دخلت مصر، عبر قنواتها الدبلوماسية، في محادثات معمقة مع بريطانيا، لحل مشكلتين احتلتا صدارة اهتمام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال لقائه الأول برئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، على هامش قمة مجموعة الدول السبع الكبرى في بياريتز الفرنسية، نهاية الشهر الماضي. الأولى هي المشاكل الأمنية في المطارات المصرية التي ما زالت تشغل سلطة الطيران المدني البريطانية والخطوط الجوية الرسمية، والثانية هي القضايا المرفوعة ضد القاهرة من قبل بعض الشركات والمستثمرين البريطانيين، بسبب الخلاف على إدارة بعض المشاريع الاقتصادية، وأبرزها القضية المرفوعة من شركة "بتروسيلتيك"، إحدى شركات مجموعة "صني هيل" الكبرى في مجال الطاقة، والتي تنشط في 3 مشاريع استخراج غاز في دلتا النيل.
وقالت مصادر دبلوماسية إن السيسي يرغب في تجاوز العلاقة الفاترة بين البلدين منذ توليه الحكم، ومتفائل بصعود جونسون ولقائه الأخير معه، لتحسين وتعميق مستوى التفاوض حول القضايا العالقة بين البلدين، وأبرزها الحظر البريطاني القائم على الرحلات الجوية إلى مطار شرم الشيخ منذ حادث سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2015، إذ كانت بريطانيا الدولة الأسبق لاتخاذ قرار حظر الطيران قبل روسيا نفسها، وما زالت تتمسك به رغم كل المجهودات التي بذلتها مصر لاستيفاء معايير السلامة البريطانية.
وطالبت القاهرة مراراً من خلال القنوات الدبلوماسية، ومجهودات عدد من السياسيين الذين تربطهم علاقات جيدة بمصر، مثل النائب عن حزب "العمال" ستيفن تيمز، رئيس مجموعة العمل الخاصة بمصر بالبرلمان البريطاني، برفع الحظر على الرحلات الجوية إلى شرم الشيخ، وذلك انطلاقاً من حضور رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي القمة العربية ــ الأوروبية الأخيرة، التي التأمت في المدينة الساحلية، التي تعتبر لندن أنه "من الضروري استشارة السلطات قبل زيارتها" وفقاً لخارطة الأخطار الأمنية الخاصة بمصر الموجودة على الموقع الرسمي للحكومة البريطانية.
وتشير إحصائيات وزارة الخارجية البريطانية إلى أن 900 ألف بريطاني سافروا إلى مصر في 2015، وانخفض هذا العدد إلى 231 ألفاً في 2016، بعد منع الرحلات إلى شرم الشيخ، التي كانت تعتبر المقصد السياحي الأول في الشرق الأوسط للمواطنين البريطانيين. وأضافت المصادر أن القاهرة أبدت أخيراً استعدادها لاستضافة وفود تفتيش إضافية لاختبار مستوى التأمين في جميع المطارات المصرية، خصوصاً بعد الأزمة التي وقعت في 20 يوليو/تموز الماضي، عندما اتخذت الخطوط الجوية البريطانية قراراً مفاجئاً بوقف الرحلات المتجهة إلى القاهرة لمدة أسبوع، وعدم إخطار مطار القاهرة رسمياً بالقرار، رغم إعلانه في وسائل إعلام بريطانية وإبلاغ المسافرين به، ما أدى إلى احتجاج وزارة الطيران المدني المصرية رسمياً على اتباع هذا الأسلوب، وإبلاغ السفير البريطاني في مصر بذلك.
ورغم استئناف الرحلات الجوية بعد أسبوع واحد من إيقافها، إلاّ أن وقوع حادث التفجير الإرهابي بمحيط معهد الأورام في القصر العيني بقلب القاهرة في 4 أغسطس/آب الماضي، أي بعد أقل من أسبوعين من القرار البريطاني، وعلى بعد كيلومترين تقريباً من مقر السفارة البريطانية، جدد التساؤلات عما إذا كانت لندن قد حصلت على معلومات استخباراتية أو أمنية غير اعتيادية في هذا الشأن، ولم تبلغ الحكومة المصرية بها. ولذلك أوضحت المصادر أن من بين الملفات التي يرغب السيسي في التعاطي معها بأسلوب مختلف خلال الفترة المقبلة، ملف التعاون الأمني بين البلدين.
وتخلو خارطة الأخطار الأمنية المنشورة على الموقع الرسمي للحكومة البريطانية من أي مناطق مصرية آمنة تماماً، حيث تم تصنيف القاهرة والإسكندرية والدلتا والساحل الشمالي غرباً حتى مطروح وساحل البحر الأحمر وشرم الشيخ بجنوب سيناء، كمناطق ينبغي الاطلاع على نصائح السفر الخاصة قبل التوجه إليها. وتم تصنيف باقي مناطق جنوب سيناء ومحافظة الوادي الجديد بالكامل، والامتدادات الصحراوية الغربية لمحافظات الصعيد، كمناطق لا ينصح بالسفر لها، عدا الرحلات المهمة للغاية. كما تم تصنيف محافظة شمال سيناء بالكامل كمنطقة غير مسموح السفر إليها بالنسبة لرعايا بريطانيا.
وسبق أن قال مصدر مطلع بوزارة الطيران المصرية، لـ"العربي الجديد"، إبان أزمة يوليو الماضي، إن بريطانيا كانت الدولة الأكثر تشدداً من بين الدول التي أرادت التدخل في مراقبة إجراءات تطوير وسائل الأمن والسلامة بالمطارات المصرية، و"حتى أكثر تشدداً من روسيا، التي ما زالت تماطل في التنفيذ الكامل لقرار استئناف الرحلات الجوية"، وأنها أرسلت، منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2015، أكثر من 30 فريق تفتيش أمني، تعاونوا مع السلطات المصرية في تطوير معايير السلامة بمطارات القاهرة وشرم الشيخ والغردقة. وكان آخرها فريق تفتيش زار مطاري القاهرة وشرم الشيخ، في مايو/أيار الماضي، وسجل إشادة بمستوى التطور والتشديد الأمني، وباستخدام استراتيجيات جديدة ووسائل لم تكن متبعة في المطارات المصرية من قبل.
أما الملف الثاني الذي وجه السيسي بالإسراع في محاولة علاجه فهو الخاص بالقضايا المرفوعة على مصر من شركات بريطانية، بموجب اتفاقية تشجيع وحماية الاستثمارات الموقعة بين البلدين في العام 1976، وأبرزها الدعوى التي رفعتها شركة "بتروسيلتيك"، الربيع الماضي، أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار "إكسيد" التابع للبنك الدولي، والمطالبة بتغريم مصر 24 مليون دولار لعدم سداد ديون مستحقة للشركة مقابل شراء الغاز الطبيعي منها، واتهمت فيها الحكومة المصرية بتعريضها للغبن والعصف باستثمارات الشركة في مصر.
وقالت المصادر الدبلوماسية إن هذه الشركة تحاول الخروج من السوق المصرية بأكبر قدر من المكاسب المالية العاجلة، التي لم تستطع تحقيقها من نشاطها الطبيعي، والتشارك مع هيئة البترول في بعض المشاريع، وذلك بسبب تعرضها لخسائر ضخمة، نتيجة اقتراضها 500 مليون دولار من مؤسسة التمويل الدولية وبنوك أخرى لتمويل عمليات استكشاف كان من المتوقع أن تكون مجزية وناجحة، على مساحة تقارب ألفي كيلومتر مربع في البحر المتوسط بالقرب من سواحل سيناء في العام 2012، حيث تبين بعد عامين، تم خلالهما تغطية نحو 300 كيلومتر مربع، أن النتائج ليست جيدة، وأن عقد التنقيب لن تترتب عليه المكاسب المنتظرة. وأضافت المصادر أن هناك أفكاراً طرحتها هيئة البترول لحل النزاع ودياً، بسداد جزء من المبالغ المستحقة على أقساط قصيرة الأجل، لكن الشركة البريطانية لم تبد استعداداً للتنازل عن دعواها حتى الآن.
وزار السيسي العاصمة البريطانية لندن مرة واحدة فقط منذ توليه الحكم، في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، واعتبرت الزيارة الأكثر فشلا بين جولاته الخارجية منذ ذلك الوقت، حيث تخللتها خلافات عديدة حول الملفات الحقوقية والسياسية، وحظي السيسي فيها باستقبال رتيب من رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون في ظل معارضة نيابية وشعبية واسعة لاستضافة رئيس صعد إلى السلطة على دماء آلاف الضحايا من معارضيه، خصوصاً في مذبحتي رابعة والنهضة، وصدر عقبها مباشرة قرار حظر الطيران، إذ جاء بعد ساعات من حادث الطائرة الروسية. لكن العلاقة الاقتصادية بين البلدين ظلت قائمة بعيداً عن ملف الطيران، خصوصاً بعد توقيع شركة "بريتيش بتروليوم"، في مارس/آذار 2015، صفقة استثمار قياسية بالنسبة لمصر، بقيمة 12 مليار دولار لمشروع التنقيب عن النفط والغاز في غرب الدلتا، وتضمنت امتيازات عديدة منحها السيسي للشركة بالمخالفة لاعتراضات حكومية سابقة عطلت إبرام الصفقة لأكثر من عامين، وذلك في إطار سعي السيسي لكسب رضا القوى الغربية بواسطة عقود الاستثمار والصفقات الاقتصادية. وقامت تيريزا ماي بأبرز زيارة بريطانية رسمية لمصر في السنوات الأخيرة، بحضورها القمة العربية الأوروبية التي عقدت في شرم الشيخ في فبراير/شباط الماضي. واكتفت بترديد عبارات دبلوماسية عن قوة وعمق العلاقة مع مصر، لكنها رفضت تحديد موعد لاستئناف رحلات الطيران إلى شرم الشيخ.