السيسي على المكشوف للعامّة والخاصّة

31 أكتوبر 2019
+ الخط -
بعد سبع سنواتٍ من مشهد رجل بنظّارة سوداء، تخبّئ مطامع عينيه، وهو وزير حربية بلباسه العسكري، يقدم رِجلا ويؤخر رجلا، وينصت بوقار متكلف، وصمت، مقلدا صمت الحكماء، بكلماتٍ تكاد تكون شحيحة جدا، ونظرات خاطفة (من تحت لتحت) أسفل منصة رئيس جمهورية آمن لوضع الذئب بجوار الغنم. فجأة تحوّل إلى منقلبٍ واثق، وقد خرج من مخبأ الذئاب على الناس بالنظّارة نفسها، واللباس العسكري نفسه، معلنا عن خريطة طريق. هنا اخشوشن صوته بعد أيام، وخرج متوعّدا وطالبا تفويضا.
شتّان ما بين الصورتين، وخصوصا بعدما رقصت العامة على أغنية كتبها "الخاصة" بالطبع بليل، وتدرّبوا جيدا قبلها بشهور في الاستديوهات الخفية، وهي "تسلم الأيادي"، فسكر العامة باللحن الذي دغدغ مشاعرهم، وأتى على جناحيه "بيوسفهم" و"ناصرهم" و"أحمسهم". كما بالغ "الخاصة"، فخمد كل معارض ونام في عشه من "الخاصة"، وهو نائم أصلا، ومن تجرّأ من العامة بالرفض تولت الرصاصة القاتلة بالرد، ثم بدأ الرجل بولائم الدم بوتيرةٍ سريعة، وكأنه أخذ "تصريح القتل" مختوما من كل جهةٍ في العالم. وأحيانا يتباهى بذلك مكيدة للخصوم (تذكّروا كل ما حدث لكم من كذا إلى كذا مرورا برابعة والنهضة)، وكأنه يتوعد خصومه بالمزيد، وكأن العالم شبه غائبٍ عن المشهد كله، أو يبارك له هذا القتل.
ثم بدأ الرجل يخلع عنه النظّارة السوداء والملابس العسكرية، ويتكلم في الطماطم والخضار وعربات الشبان التي ستوفر ألف فرصة عمل، وكانت تلك بداية معرفة ذلك القسط الثقيل من الفهم الاقتصادي النوعي لحل مشكلات الدول والشعوب.
هنا بدأ الضحك يخرج جماعيا بكثافة، وبدأ أبو حنيفة يفرد رجليه بعد طول خوف. بعدها هرب الشباب من صفوف الانتخابات، بعدما كانت الصفوف بعشرات الآلاف أمام اللجان. حاول الرجل أن يعيد الثقة للذات المهزوزة في ستة مؤتمرات للشباب، يتوسّطهم وسط الهدوء، ويلقي على الجميع حكمه وتجاربه، بدءا من ثلاجته التي ظلت عشر سنوات جائعة. هنا اختلط الضحك بالأساطير وتفكيك أوهام الرجل وأكاذيبه التي لا تتماشى حتى مع أدنى بديهيات العقل. إلا أن الرجل آثر الكلام البسيط للعامّة، ظنا منه أن ذلك يمثل كسبا سهلا لعقول الملايين التي رقصت على أغنية "تسلم الأيادي"، إلا أن العامة بدأوا في تحويل أسطورة النظارة والبدلة العسكرية إلى فواصل من الضحك كل يوم، بعد سماعه يتحدّث ببساطةٍ توقِعه في ما لم يكن يقصده. هنا نبّهه "الخاصة" من "شغالات نحلة" إلى ضرورة الاستعانة بالورق المكتوب.
كثُرت ضحكات العامة والخاصة معا، وصار الرجل المهيب مادة سهلة جدا للصيد النادر، بعد كل جملة أو حركة حتى وصل الأمر إلى "الربع جنيه"، حتى أوجدت له الأقدار شابا يعمل في الفن والمقاولات، اسمه محمد علي، وبدأ بث فيديوهات عن قصوره وفيلاته.. إلخ، فانتبه الناس وبدأوا في البحث عن ذلك التمثال الذي صنعوه، فبدأ الرجل مرتبكا، وعاد ذلك الفزع الذي يتلبّس الجرأة والحمق معا، وقال: "هبني تاني وتاني وتاني".
هنا فاق العامة والخاصة معا أمام طمع عيون كانت من سبع سنوات منكسة وهادئة، وتدّعي الهدوء والحكمة والزهد أيضا، وتذكّر الناس الثلاجة التي جاعت عشر سنوات. وبدأ الضحك يأخذ طريقه إلى الجرأة، فبدأت الاعتقالات بالآلاف أيضا كرد أحمق يحاول أن يحافظ على الصورة القديمة التي تآكلت. هنا أحسّ الرجل بالخوف الأكيد.
وهنا بدأ المصريون بكل وضوح يتكلمون ببساطة عن "المقلب" الذي شربوه، وخصوصا بعد زيادة الأسعار وأنبوبة البوتاغاز والحذف العشوائي من بطاقات التموين وفواتير الكهرباء والماء والبوتاغاز التي زادت سبعة أضعاف من دون أي زيادة موازية في المرتبات، حتى حكم المحكمة بالعلاوات الخمس تم أكله. هذا من ناحية بسطاء العامة، أما الخاصة من الفنانين فظلوا في بيوتهم بلا عمل. يتابعون السهوكة في مؤتمرات شبابية للاستهلاك المحلي، ولأخذ لقطة تصدّر إلى العالم فقط.
هنا وصل الرجل إلى أقصى درجات الهلع، حينما تحاول سلطاته القبض حتى على الأطفال، وهم يقولون: "بلحة" .. وبدأ الخاصة في الضحك والتململ. هنا أدرك الرجل صاحب النظّارة السوداء صورته في البئر، وقد بدأ الألم واضحا عليه، وخصوصا حينما رأى وجوه الناس من حوله لم تعد التي كانت من سنوات.
دلالات
720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري