السيد لوكليرك وهلوساته

31 مايو 2016
+ الخط -
تكاد النظرة الاستشراقية نفسها، تتكرّر من كاتب إلى كاتب ومن رحالة إلى آخر، قوامها: البحث عن "الدهشة المريضة"، والنّكش في كل ما هو غرائبي، وكأن هذا الرحالة/ الإخباري أو "المخبر" على وجه التدقيق، لا يستثيره الجمال ولا المنحى الحضاري، وإنما تلك المضغة البدائية، التي إن وجدها، بداوة وتخلُفا، فإنما قد حاز قصب السبق. 
كل كتابات القرن التاسع عشر تسير في هذا الاتجاه، وقد تعرض المغرب العربي إلى هجوم هؤلاء المستشرقين، قبيل احتلال الجزائر سنة 1830، مروراً بفرض الحماية الفرنسية والإسبانية على المغرب، منذ نهاية القرن التاسع عشر، تُوّجت بتوقيع المعاهدة الشهيرة مع الفرنسيين في سنة 1912.

ربما ساهم تفكك الدولة السلطانية في التمهيد لذلك الهجوم، الذي بدأ بمستطلعين مدنيّين أو شبه مدنيين، ممن خضعوا لتربية عسكرية أو بواسطة قناصل الممثليات الأجنبية: إيطاليون وألمان ونرويجيون وهولنديون وإسبان وبريطانيون وبلاجكة وأميركيون لاحقاً. كان المهم بالنسبة إليهم الوصول إلى الشمال الإفريقي، وقد كانت طنجة هي بيت القصيد، باعتبارها مدينة دولية، تعجّ بكل درجات المخبرين الذين أرسلتهم دولهم إلى المغرب الأقصى لاستطلاع الأمر وإنجاز تقارير لسلطات بلدانهم حول الجو العام للبلاد في إطار تسابق القوى العظمى آنذاك على مناطق النفوذ.

وكأن الحركة الاستخباراتية الكبيرة التي كانت نشيطة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لا تختلف كثيراً عما يحدث الآن في العالم العربي الممزّق بالحروب والمهدّد بالدول الفاشلة والمفتوح على خرائطية جديدة تعيد "تشييده" من جديد. 
كانت طنجة هي منطقة التّعسكر، يبحر القادم إليها من الجزيرة الخضراء ومن جبل طارق ثم ينزل في مرساتها الرملية، ومن هناك ينقل عبر قوارب صغيرة إلى البر، ليصعد دروب المدينة القديمة، حيث توجد الفنادق وأماكن الراحة وممثلو السلطات المحلية، والقناصل الذين يشبهون الديكة المتصارعة على حيز في المكان. 

سرعة كتابة التقارير، والاتصال السلس مع السلطات المحلية، وتقديم الهدايا والرشى الصغيرة، كلها دروب تؤدي إلى تيسير عمل "الرحالة"/ المستكشف، الذي تقدم له سلطات بلاده كافة المساعدات والإمكانيات وتموّل تكاليف أسفاره، لرسم صورة واقعية وحقيقية من عين المكان، كانت بعضٌ من التقارير تجد طريقها إلى صحافة ذلك الوقت، والسري منها يذهب إلى الأرشيفات الاستخباراتية. وقتها لم يكن الحال كما هو عليه، من سرعة توثيق في نشر الأخبار وبث التقارير هنا وهناك وتكثيف الحملات الإعلامية على هذا البلد أو ذاك في انتظار اللحظة الحاسمة للانقضاض عليه.

من الكتب الممتعة، التي تعتبر كنزاً من الناحية السوسيولوجية، رحلة الرحالة والجغرافي البلجيكي جيل لوكليرك(Jules Joseph Leclercq)، التي قام بها إلى المغرب والجزائر، وصدرت في ترجمة عربية هذا العام لها بعنوان "من موكادور إلى بسكرة، رحلات داخل المغرب والجزائر" أنجزها المترجم المغربي بوشعيب الساوري وراجعها الشاعر والمترجم الطاهر لكنيزي. ووجه المتعة، يكمن في شساعة المساحة الجغرافية التي شملتها هذه الرحلة، والتي كانت خلال ثلاث محطات، الرحلة الأولى إلى طنجة، والثانية إلى مدينة الصويرة/ موكادور، والثالثة إلى الجزائر.
وخلال هذه المحطات الثلاث لم يتمكن لوكريك بالرغم من استعانته بعدد من "الأدلاء" من التوغل عميقاً بعيداً عن الحواضر الكبرى، فالطرق لم تكن آمنة وحالة الفوضى كانت تعم بلاد المغرب الأقصى، إضافة إلى زحف الأوبئة والأمراض والمجاعات. 

يكتب لوكليرك عن المغرب انطباعه التالي: "على بعد عشرة فراسخ من الجهة الأخرى لمضيق جبل طارق، توجد منطقة بالكاد ما تُعرف. لم تنفذ إليها العادات الأوروبية، والاختراعات الحديثة لا توجد بالنسبة لها، لا توجد بها خطوط السكك الحديدية، ولا توجد طريق تشقّ مجالها الواسع، ولم يسبق أبداً لسكانها رؤية سيارة بعجلات، ولا باخرة نهرية، ولا جسراً، يتم فيها عبور الأنهار سباحة أو عبر طوافات جلدية منفوخة الهواء، ويتم السفر على متن البغال والجمال، عبر طرق القوافل".

ثم تبلغ الدرجة الاستعلائية مداها، ممزوجة بشعور أوروبي مريض بالتفوق مع "كنسية" بغيضة، يكتب "يبدو أن سوراً صينياً يحجب هذا البلد عن أي حضارة: هذا السور ليس شيئاً آخر سوى الاستبداد الذي يشجع عليه دين يرتكز على المذهب القدري للقرآن".
هذا واحد من أوجه الاستشراق، نصوصه ما تزال تحكم اللاوعي الغربي تجاه عالم عربي، "تغادره بلا ندم" كما قال لوكليرك عن طنجة.
المساهمون