السيدة الغلباوية

01 نوفمبر 2014
+ الخط -

بصراحة، كان من الأفضل لكثيرين لو لم تكن صاحبتنا السيدة الفضولية الغلباوية، التي تحب مدينتها حد الغيرة، حشرية إلى حد كبير يغيظ معارفها، ويضعها غالباً في دائرة اللوم، بسبب غرابة وطرافة المواقف التي تجد نفسها فيها، لو أنها كانت مثل بقية خلق الله، محايدة مسالمة وفي حالها. ولكن لا! تريد أنّ "تقيم الدين في مالطا"، وتتوهم، أحياناً، أنها قادرة، على الرغم من موقعها مواطنة عادية، ولا صفة رسمية أو قانونية لها تخولها التدخّل.

مع ذلك، لا تتردد في اتخاذ مبادرات غير مألوفة، تجلب لها المتاعب أحياناً، كأن  تقرّع  أُمّاً غريبة عنها في حديقة عامة، بسبب حملها طفلاً بطريقة غير آمنة، وتأمرها بحزم بالتركيز على سلامة الطفل المتأرجح، والكف عن الحكي (الفاضي) بالموبايل، أو تنهر صبية يلعبون كرة القدم وسط الشارع، بعد أن توضح لهم مخاطر ذلك، أو تدخل في جدال مع بائع متجول عن  خطورة ما يبيع على أرواح الصغار، أو أنّ  تتلو  على مراهق ضجر طائش، لا يخلو من عدوانية، محاضرة  في الأخلاق الحميدة، وترعبه من مغبة التحرش، ومضايقة الفتيات العابرات، ولا تتوانى، وبخبث، عن تذكيره بأن له أختاً تعبر شارعاً ما، وأن شاباً متهتكا سوف يعترض طريقها يسمعها كلاماً يخدش الحياء، ولعله  يتمادى بما  هو أكثر من ذلك!  فيفور دمه في عروقه، وينطلق مرتبكاً، فيتصل بوالدته، وقبل أن يلقي عليها التحية، يسألها بغضب: (وين بنتك؟)

 أحياناً، تشي لأقرب رقيب سير، ومن دون أدنى تأنيب ضمير، عن تجاوز ما ارتكبه سائق مستهتر، بعد أن تزوده برقم السيارة، لو أنها كانت أقل قابلية للاستفزاز السريع، وأكثر قدرة على كتم الغيظ، وعلى التحكم بالغضب الذي غالباً ما يعتريها لأسباب سخيفة، لما تعرّضت لذلك الموقف المربك غير المريح، الذي سبّب لها حرجاً كبيراً؛ حيث بدتْ للآخرين سيدةً غريبةَ الأطوار، تعاني من أزمة منتصف العمر، غير قادرة على ضبط انفعالاتها، ولربما اعتقد بعضهم أنها مجرد سيدة عدوانية، لا تتقن القيادة، وتجهل تماماً قواعد المرور وآدابه.

وتسرد صديقتنا ما حدث معها عند إشارة ضوئية حيوية، تشهد ساعات الظهيرة ازدحاماً شديد الكثافة، تضطر السواقين للتوقف طويلاً. كانت متوقفة، بأمان الله، ضمن رتل السيارات المنصاعة للإشارة الحمراء، حين لاحظت نافذة السيارة الخصوصي الفارهة التي تقف في المقدمة، وقد قرر صاحبها وبدم بارد وتحدٍ سافر واستهتار بالغ وانتهاك جسيم، تزجية الوقت بالتخلص من الأوساخ في سيارته، وإلقائها في الشارع، وعلى عينيك يا تاجر!

بدأ الدم يغلي في عروقها، حاولت لجم غضبها الذي استشاط. تطلعت حولها باستغاثة على أمل مرور دورية تردع ذلك المعتدي، حدّقت ببقية السائقين، تحرضهم على التصدي لذلك العدوان، غير أن أحداً من السواقين والمارة لم يبد أيّ اكتراث أو مساندة، فترجلت باندفاع من السيارة، وتوجهت حيث السائق منهمك في إلقاء علب العصير الفارغة وأكياس الشيبس والمناديل الورقية، نقرت على النافذة باحتجاج، ووجهت له عبارة شديدة القسوة، تطرقت فيها إلى فكرة الانتماء والمواطنة الحقة وعرق عمال الوطن المبذول على الطريق.

وتقول السيدة إن الرجل لم يكن شاباً طائشاً، سرق مفتاح سيارة (البابا)، وخرج مستعرضاً أمام الأصدقاء، بل إن نوعية الأوساخ التي ألقاها تؤكد أنه رب عائلةٍ، كان الله في عونها على مَثل ليس أعلى بكل المقاييس! قال لها محتداً: "ليش الشارع كاين لأبوك، إنتي شو دخلك"، وأغلق النافذة بعصبية، ولم يتح لها فرصة الرد. في تلك اللحظة، أضيئت الإشارة الخضراء، فانطلقت زوامير غاضبة محتجة على السيدة الحشرية التي عرقلت حركة المرور، وتسببت في تأخرهم عن الغداء دقائق معدودات.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.