02 ابريل 2021
السياسة العربية والفيلسوف الغائب
قد تختلف معه في عديد من أطروحاته السياسية والفكرية والفلسفية، لكنك لا تملك سوى أن تحترمه، وتقدّر سلطته النقدية في الحكم على الأشياء المعرفية، وهي آخذةٌ مداها في كل الاتجاهات؛ فضلاً عن أن لديه أسئلته الخصوصية في ثورة الحداثة والتحديث التي شغلت معظم رموز جيله، لبنانياً وعربياً، في الستينيات والسبعينيات من القرن الفائت، فقد كان يُحلّق في حداثةٍ سياسيةٍ وفلسفيةٍ على مقاسه الفردي الفذ والمتحرّك، بين قطبي المثال والواقع، وعلى قاعدة الوجودية والشخصانية، فلسفتين متداخلتين في كيمياء واحدة، ترى الفرد، في المحصّلة، قيمة مطلقةً بذاته، يختزل المجتمع والتاريخ والزمن.. وتحصيل حاصل باقي العناصر والتفاصيل المشتقّة عنها، وأولاها السياسة، بعداً تنظيمياً للحياة الإنسانية، في إطار الأوطان والقوميات والإرادات ورسم المصائر الكبرى لها.
إنه كمال يوسف الحاج (1917 – 1976) الفيلسوف والأكاديمي اللبناني الإشكالي، والذي كان قد أثار سجالات سياسية كثيرة رافضة أطروحاته، وخصوصاً منها دعوته إلى "القومية اللبنانية"، أو "اللبننة" و"اللبنانولوجيا"، وتأسيس أركان فلسفيةٍ على هذه الأبعاد الآحادية الضيّقة في رأينا، وفي إطار اللغة العربية التي كان يعتبرها، وهنا المفارقة، "لغةً راقيةً، تستطيع أن تكون لغة فلسفة وتفلسف أكثر من غيرها من لغات العالم الحية". ومفارقة اللغة العربية عند فيلسوفنا الحاج تكمن هنا في أنه كان على الضدّ من مشاريع تكريس "الدارجة اللبنانية" لغةً بديلةً في الثقافة والفكر والأدب، دعا إليها لبنانيون آخرون، في طليعتهم سعيد عقل الذي لم يكتف بالدعوة إلى الدارجة اللبنانية لغة بديلة للعربية الفصحى في كل شيء، بل اخترع لها حروفاً باللاتينية، وأصدر صحيفة مكتوبة "باللغة اللبنانيّي" لم تعمر طويلاً.
وكنت على سجال خلافي شبه متواصل مع الفيلسوف الحاج، منتصراً، طبعاً، لفكرة العروبة الحضارية هوية تاريخية ومستقبلية جامعة، حتى للذين يرفضونها في لبنان، وفي عموم المنطقة العربية. أما هو، والحق يقال، فقد كان يحترم الرأي الآخر دونما خداع المجاملة، لكنه كان يمضي منتصراً ليقينياته أكثر فأكثر، قائلاً لي مثلاً، وأنا أحد تلاميذه في قسم الفلسفة في الجامعة اللبنانية: "فكّر كما شئت. الدرس الفلسفي يمنحك حق الاختلاف مع الآخر. وأنا أحبّ المعترضين كمتفلسفين، وأرى في اعتراضهم سجالاً فلسفياً من حيث المبدأ والنتيجة، وهو سجالٌ يزيدني تشبّثاً في ما أرى، وفي ما أذهب إليه".
يرى كمال يوسف الحاج أن الفلسفة لم تعد منفصلة عن المجتمع؛ وكل مجتمع هو مجتمع سياسي. ما يعني أن الفلسفة والسياسة مرتبطان ببعضهما، بموجب الارتباط نفسه، الكائن بين الوجود والجوهر؛ فإذا اعتبرنا الفلسفة جوهراً أو سقفاً، اعتبرنا السياسة وجوداً أو قاعدةً، ولا سقف من دون قاعدة، ولا قاعدة من دون سقف. وعليه، الطرفان يتجاوبان فيتواجهان.
وفي إشارةٍ إلى "الوجودية الحديثة" التي ينبغي أن نقتاس بها، حسب رأيه، خصوصاً لجهة إقرارها بمبدأ واجب وجود الفلسفة في كل تطور اجتماعي معين. أما لماذا؟.. فلأن الناظر مليّاً في تطورنا يرى، بوضوح، أن وعينا السياسي نتيجة تحدّياتٍ سياسية، من الخارج، لا حصيلة اختمارٍ فلسفيٍّ أو مناقبي، من الداخل. سبقت السياسة الفلسفة، والأصح، بل الأوجب، أن تسبق هذه تلك، أو على الأقل، أن تسير جنباً إلى جنب، في مشيةٍ متوازية؛ ذلك أن النظرة الوجودية الحديثة، كنظرة فلسفية، هي عبرة لنا، أن عصرنا الحالي، هو عصر الفلسفة، وأن المبادئ الفلسفية، ما برحت توجّه فيه سياسات الشعوب والأمم جميعها؛ ذلك لأن الإنسان لا يناضل إلا في سبيل عقيدة، والعقيدة هي دائماً من باب الفلسفة.
من هنا، يدلف فيلسوفنا للقول إن الوعي السياسي في الشرق العربي لم يُعط له فيلسوفٌ بعد، أو مخطِّط عقائدي يُقيمه على أوليّات فلسفية عامة. ومثل هذا الغياب الفلسفي، في سياساتنا، هو الذي جعل الشارع يتحكّم بها، محدثاً من الثغرات القوية، الفاضحة ما يجعل الأغيار يمسكون برقابنا.
والسياسة، بما هي وقائع حيّة ومعافاة بالتطور، الناجح والنسبي، ما استغنت يوماً عن الفلسفة. وهل سياسات الغرب نفسها إلّا امتداد للتفكير الفلسفي؟ الشعوب القائدة متفلسفة، لأنها موجِّهة؛ إذ السياسة لا ترسخ، فتنهض إلى المستوى الفارض نفسه بقوة، إلّا إذا استحرّت بروح فلسفية. والتاريخ أمامنا أكبر شاهد. السياسات الكبيرة نظراتٌ في الوجود، لأنها حضارات، والحضارات إطلالات موحّدة على الحياة ككل لا يتجزأ، باعتبار أنه لا تستطيع مطلق سياسةٍ أن تستغني عن الفلسفة. وحتى فهم الدين، أصلاً، يدخل في بابها على هذا الأساس، لأنها أسمى درجات الإدراك الذي تصل إليه واعيتنا البشرية. ما كانت معرفة صحيحة من دونها، ولا علم صحيح، ولا سياسة صحيحة، ولا عمران، ولا فن، ولا أدب. كل ظاهرة اجتماعية ممتازة قامت، أو يجب أن تقوم في مطلق شعب، ينبغي لها أن تستند إلى تخطيطٍ فلسفي موجِّه.
ويتساءل فيلسوفنا الحاج: هل صاهرت سياساتنا الفلسفة؟ هل عندنا تخطيط عقدي صارم؟ ويجيب: الواقع، الذي لا شك فيه، أن سياساتنا تنظيمات إدارية، لا غير.
وهو على "لبنانيته الضيّقة"، والتي كنا ننتقده عليها، كان خلالها لا يفصل نفسه، ولو في مجرى الكلام الواحد، والنص التفكّري الفلسفي الواحد، عن القول مثلاً، "إن سياسة العالم العربي ضعيفة تجاه المستعمر والمُنتدب؛ فلم تنبت جذورها في أرضها الخاصة. كنّا جوهريين إلى آخر حدود الجوهرية المثالية، الأمر الذي حدانا على احتقار الوجود، وجودنا، باعتباره تدنيساً للحقيقة المطلقة، وقد ساعد الغير على ترسيخ هذه "الجوهرية المثالية" في أذهاننا، لأنها أضعفت تمسّكنا بوجودنا الواقعي؛ فما عدنا نقدّس لغتنا، ولا أرضنا، ولا تاريخنا، ولا اقتصادنا".
وإذا كانت الفلسفة الوجودية على نوعين، إيمانية وإلحادية، فإن وجودية كمال يوسف الحاج إيمانية. ومن هنا، تصدّيه بالنقد المفنّد لوجودية سارتر الإلحادية. ويعود من قلب هذا النقد، وهو "القومي اللبناني"، إلى الحديث بـ"نا" العربية، حين يقول: "ميزة شرقنا العربي أنه حافظ على إيمانه بالله. حافظ على هذا التراث الذي أصبح جزءاً لصيقاً بكيانه، ما يجعل نصيب الوجودية الملحدة غير وارد في حياتنا الاجتماعية".
وكمال يوسف الحاج الذي ولد في مراكش وجال في طفولته، من خلال ظروف عائلته، في مصر وسورية، قبل أن يعود ليستقر في بلده لبنان، كان جبلةً إنسانية خاصة، قائمة على توازن فضاءات الثقافات العظيمة كلها، والمركبة بدورها على بنى التضادّ المعرفي الفلسفي الخلّاق، وهو تضادّ لم يغيّر من صورته لعارفيه عن كثب، أنه كان، وعلى الدوام، إنساناً ساكناً، هادئاً، وقوراً، لا يباهي بمأثرة، ولا يفاخر بإنجاز.
إنه كمال يوسف الحاج (1917 – 1976) الفيلسوف والأكاديمي اللبناني الإشكالي، والذي كان قد أثار سجالات سياسية كثيرة رافضة أطروحاته، وخصوصاً منها دعوته إلى "القومية اللبنانية"، أو "اللبننة" و"اللبنانولوجيا"، وتأسيس أركان فلسفيةٍ على هذه الأبعاد الآحادية الضيّقة في رأينا، وفي إطار اللغة العربية التي كان يعتبرها، وهنا المفارقة، "لغةً راقيةً، تستطيع أن تكون لغة فلسفة وتفلسف أكثر من غيرها من لغات العالم الحية". ومفارقة اللغة العربية عند فيلسوفنا الحاج تكمن هنا في أنه كان على الضدّ من مشاريع تكريس "الدارجة اللبنانية" لغةً بديلةً في الثقافة والفكر والأدب، دعا إليها لبنانيون آخرون، في طليعتهم سعيد عقل الذي لم يكتف بالدعوة إلى الدارجة اللبنانية لغة بديلة للعربية الفصحى في كل شيء، بل اخترع لها حروفاً باللاتينية، وأصدر صحيفة مكتوبة "باللغة اللبنانيّي" لم تعمر طويلاً.
وكنت على سجال خلافي شبه متواصل مع الفيلسوف الحاج، منتصراً، طبعاً، لفكرة العروبة الحضارية هوية تاريخية ومستقبلية جامعة، حتى للذين يرفضونها في لبنان، وفي عموم المنطقة العربية. أما هو، والحق يقال، فقد كان يحترم الرأي الآخر دونما خداع المجاملة، لكنه كان يمضي منتصراً ليقينياته أكثر فأكثر، قائلاً لي مثلاً، وأنا أحد تلاميذه في قسم الفلسفة في الجامعة اللبنانية: "فكّر كما شئت. الدرس الفلسفي يمنحك حق الاختلاف مع الآخر. وأنا أحبّ المعترضين كمتفلسفين، وأرى في اعتراضهم سجالاً فلسفياً من حيث المبدأ والنتيجة، وهو سجالٌ يزيدني تشبّثاً في ما أرى، وفي ما أذهب إليه".
يرى كمال يوسف الحاج أن الفلسفة لم تعد منفصلة عن المجتمع؛ وكل مجتمع هو مجتمع سياسي. ما يعني أن الفلسفة والسياسة مرتبطان ببعضهما، بموجب الارتباط نفسه، الكائن بين الوجود والجوهر؛ فإذا اعتبرنا الفلسفة جوهراً أو سقفاً، اعتبرنا السياسة وجوداً أو قاعدةً، ولا سقف من دون قاعدة، ولا قاعدة من دون سقف. وعليه، الطرفان يتجاوبان فيتواجهان.
وفي إشارةٍ إلى "الوجودية الحديثة" التي ينبغي أن نقتاس بها، حسب رأيه، خصوصاً لجهة إقرارها بمبدأ واجب وجود الفلسفة في كل تطور اجتماعي معين. أما لماذا؟.. فلأن الناظر مليّاً في تطورنا يرى، بوضوح، أن وعينا السياسي نتيجة تحدّياتٍ سياسية، من الخارج، لا حصيلة اختمارٍ فلسفيٍّ أو مناقبي، من الداخل. سبقت السياسة الفلسفة، والأصح، بل الأوجب، أن تسبق هذه تلك، أو على الأقل، أن تسير جنباً إلى جنب، في مشيةٍ متوازية؛ ذلك أن النظرة الوجودية الحديثة، كنظرة فلسفية، هي عبرة لنا، أن عصرنا الحالي، هو عصر الفلسفة، وأن المبادئ الفلسفية، ما برحت توجّه فيه سياسات الشعوب والأمم جميعها؛ ذلك لأن الإنسان لا يناضل إلا في سبيل عقيدة، والعقيدة هي دائماً من باب الفلسفة.
من هنا، يدلف فيلسوفنا للقول إن الوعي السياسي في الشرق العربي لم يُعط له فيلسوفٌ بعد، أو مخطِّط عقائدي يُقيمه على أوليّات فلسفية عامة. ومثل هذا الغياب الفلسفي، في سياساتنا، هو الذي جعل الشارع يتحكّم بها، محدثاً من الثغرات القوية، الفاضحة ما يجعل الأغيار يمسكون برقابنا.
والسياسة، بما هي وقائع حيّة ومعافاة بالتطور، الناجح والنسبي، ما استغنت يوماً عن الفلسفة. وهل سياسات الغرب نفسها إلّا امتداد للتفكير الفلسفي؟ الشعوب القائدة متفلسفة، لأنها موجِّهة؛ إذ السياسة لا ترسخ، فتنهض إلى المستوى الفارض نفسه بقوة، إلّا إذا استحرّت بروح فلسفية. والتاريخ أمامنا أكبر شاهد. السياسات الكبيرة نظراتٌ في الوجود، لأنها حضارات، والحضارات إطلالات موحّدة على الحياة ككل لا يتجزأ، باعتبار أنه لا تستطيع مطلق سياسةٍ أن تستغني عن الفلسفة. وحتى فهم الدين، أصلاً، يدخل في بابها على هذا الأساس، لأنها أسمى درجات الإدراك الذي تصل إليه واعيتنا البشرية. ما كانت معرفة صحيحة من دونها، ولا علم صحيح، ولا سياسة صحيحة، ولا عمران، ولا فن، ولا أدب. كل ظاهرة اجتماعية ممتازة قامت، أو يجب أن تقوم في مطلق شعب، ينبغي لها أن تستند إلى تخطيطٍ فلسفي موجِّه.
ويتساءل فيلسوفنا الحاج: هل صاهرت سياساتنا الفلسفة؟ هل عندنا تخطيط عقدي صارم؟ ويجيب: الواقع، الذي لا شك فيه، أن سياساتنا تنظيمات إدارية، لا غير.
وهو على "لبنانيته الضيّقة"، والتي كنا ننتقده عليها، كان خلالها لا يفصل نفسه، ولو في مجرى الكلام الواحد، والنص التفكّري الفلسفي الواحد، عن القول مثلاً، "إن سياسة العالم العربي ضعيفة تجاه المستعمر والمُنتدب؛ فلم تنبت جذورها في أرضها الخاصة. كنّا جوهريين إلى آخر حدود الجوهرية المثالية، الأمر الذي حدانا على احتقار الوجود، وجودنا، باعتباره تدنيساً للحقيقة المطلقة، وقد ساعد الغير على ترسيخ هذه "الجوهرية المثالية" في أذهاننا، لأنها أضعفت تمسّكنا بوجودنا الواقعي؛ فما عدنا نقدّس لغتنا، ولا أرضنا، ولا تاريخنا، ولا اقتصادنا".
وإذا كانت الفلسفة الوجودية على نوعين، إيمانية وإلحادية، فإن وجودية كمال يوسف الحاج إيمانية. ومن هنا، تصدّيه بالنقد المفنّد لوجودية سارتر الإلحادية. ويعود من قلب هذا النقد، وهو "القومي اللبناني"، إلى الحديث بـ"نا" العربية، حين يقول: "ميزة شرقنا العربي أنه حافظ على إيمانه بالله. حافظ على هذا التراث الذي أصبح جزءاً لصيقاً بكيانه، ما يجعل نصيب الوجودية الملحدة غير وارد في حياتنا الاجتماعية".
وكمال يوسف الحاج الذي ولد في مراكش وجال في طفولته، من خلال ظروف عائلته، في مصر وسورية، قبل أن يعود ليستقر في بلده لبنان، كان جبلةً إنسانية خاصة، قائمة على توازن فضاءات الثقافات العظيمة كلها، والمركبة بدورها على بنى التضادّ المعرفي الفلسفي الخلّاق، وهو تضادّ لم يغيّر من صورته لعارفيه عن كثب، أنه كان، وعلى الدوام، إنساناً ساكناً، هادئاً، وقوراً، لا يباهي بمأثرة، ولا يفاخر بإنجاز.