السويداء: مدينة تسبقني إلى مخدتي

03 أكتوبر 2015
ثلوج مدينة السويداء السورية (getty)
+ الخط -


كعادتها كلّ ليل تسبقني إلى مخدتي ولا تترك مكاناً لرأسي. وحين أرغمها على الرحيل كي أستطيع النوم تختبئ تحت المخدة وتنتظر صامتة حتّى أغطّ في نومي وعندها تتسلّل كلّها إلى الحلم... هي السويداء. مدينتي التي حمّلت اسمها لكلّ من مرّ بها. فهي سويداء القلب، هي قلبه، وهي البازلت الوفي للبراكين، وهي جبال ترتفع أكثر من ألف متر عن سطح القلب.

في حلمي كانت روحي تسير في شوارعها الحجرية المرصوفة وهي تلبس بدلتها العربية بكلّ طيات العمر فيها، لتصبح السويداء امرأة تعدّ للثوار، في عام 1925، زوّادتهم قبل أن يذهبوا إلى المعركة، ولتخبز لهم طحين أيّامها ثم تطبخ لهم منسفاً فقيراً باللحم، غنياً بالكبرياء، ولتصير امرأة أخرى تزغرد لشهداء موكب الشيخ البلعوس صيف عام 2015، من الذين وقفوا بوجه النظام قبل أن يفجّر موكبهم ويجعلهم يسكنون براكين السويداء.

في الحلم كنتُ كلّما حاولت أن أهرب، يمسك بي التاريخ متلبّسة في الماضي، وينقلني من قنطرة إلى قنطرة... تبدأ من شهبا، المدينة التي تستقبلني ببوابتها لأحسّ نفسي كأنّني فيليب العربي قادم إليها، إلى مملكتي، لأنقّل عينيّ بين مسرحها الروماني وبين حماماتها القديمة الرائعة. ثم لأدخل بعد ذلك إلى معبدها حيث أعبد فيه آلهة الإبداع والعراقة.

اقرأ أيضاً: الفنانون والثورات: مصر وسورية ولبنان والتطابق الكامل

ولاحقاً يأخذني الطريق إلى متحفها، فأجد نفسي قد تحوّلت بعد كلّ هذا الجمال إلى لوحة فسيفسائية تضاف إلى أقدم وأجمل لوحات الفسيفساء في العالم.

تتركني شهبا، لكنّ صوت تظاهراتها التي خرجت في عام 2011، والتي قالت لدرعا: "يا درعا حنّا معاكي للموت"، لا يتركني. وفي أثناء الحلم تمرّ روحي في قرية عمرا حيث تتعرّف على صوت فيها، هو صوت الشهيد مأمون نوفل، الذي أتاها ميتا تحت التعذيب هذا الصيف.

أتركها، ويبقى الصوت يجرح روحي ويملأ حلمي بالنزيف. تصل روحي إلى السويداء المدينة التي تستقبلني أولا بعنقود عنب كبير، مثلما تستقبلني العناقيد الصغيرة على عرائش البيوت، و ترحّب بي مرّات ومرّات على عدد حبات العنب فيها. أدخل السويداء المدينة ليطلّ عليّ الحاضر بهيّاً وليعيد تمثال دلّة القهوة المرّة، مع فنجانها البازلتي، استقبالي مرّة أخرى، مثلما تستقبلني صدور المضافات بقهوتها التي حمّصها صاحب البيت كلّ صباح مع الشمس، ثم خمّرها على نار هادئة كي تختمر كما الحبّ. ووضعها على بابه تنتظرني إذا أتيت. هناك تقودني الأرصفة إلى مدينة أثرية كاملة مبنية تحت مدينة السويداء الجديدة. فأنزل إليها على أدراج حجرية لأتفرّج على نفسي فيها. كما لو أنّني المرأة الأولى التي سكنت هذه الأرض.

اقرأ أيضاً: زي السويداء التقليدي مكللاً بليرات الذهب

لكنّ صوت أوّل اعتصام للمحامين فيها، خلال شهر آذار من عام 2011، وصوت أولى التظاهرات التي اعتقل خلالها عشرون شخصا، ستّة عشر منهم من حملة الشهادات الجامعية، هذا الصوت الآتي من البعيد القريب يشدّني من أذني كي أصعد إليها مرّة ثانية. أما أصوات مشايخ الكرامة الذين استشهدوا في التفجير المدبّر، بتاريخ السادس من شهر سبتمبر/أيلول، فهو يملأ حلمي طازجاً كالموت.

أصعد في حلمي، أسير في شوارعها، ينده عليّ صوت صلاح صادق، ابن السويداء الذي استشهد في حلب حين كان يعمل على إنقاذ الناس من براميل طائرات النظام العسكرية. أهرب من الصوت الموجع ومن سؤاله عن الذي حصل بعد استشهاده، لأصل إلى بيتنا. تعرفني بوابة البازلت، فللبازلت ذاكرة لا تخون، أدخلها فتتعرّف الدالية على وجهي، ويتعرّف عليّ غياب أخي الذي تحت التراب، يضمني غيابه، يقبّلني، ويبكي...

أنده في الحلم على أبي، ورائحة قهوته تعيد إليّ ملامحه كاملة، أنده عليه وقلبي يسبقني، لكن لا أحد، أشهق، أصرخ وأستفيق على صوت صراخي، ومرارة قاتلة تملأ فمي.

اقرأ أيضاً: حكواتي: تاريخ القريا الذي لا يموت
المساهمون