السلفادور.. الدكتاتورية والحرب والأدب

18 يناير 2019
هاربون من القصف في سان سلفادور، 1989 (دونّا سيزار)
+ الخط -

لا يُمكن قراءة مشهد الأدب السلفادوري المعاصر والحديث بمعزل عن واقعين عاشتهما البلاد: الدكتاتورية العسكرية التي امتدّت لعقود، والحرب الأهلية التي دارت بين 1980 و1992. الأولى أسّسها الجنرال ماكسمليانو هرنانديز مارتينيز عام 1931، وقد كتب عنها الشاعر السلفادوري روك دالتون (1935 - 1975) قصيدة بعنوان "الجنرال مارتينيز"، ومنها: "يقولون إنه رئيس جيد، لأنه وزّع منازل رخيصة على من تبقّى من السلفادوريّين".

تخفي عبارة "من تبقّى" تحتها آلاف الفلاحين من السكان الأصليّين الذين قتلهم مارتينيز في حملات منظّمة، والتي يُقدّر المؤرّخ الأميركي توماس أندرسن أعداد ضحاياها بما بين ثلاثين وأربعين ألفاً، كان بعضهم يُجبَر على حفر قبره بنفسه، لم يخل الأمر أيضاً من مقابر جماعية، وتُركت بعض الجثث إلى أن أكلتها الخنازير، بحسب وثائق وشهادات تاريخية مختلفة.

كان الناس يُقتلون إن عُثر على صوَر أو أي رموز للمسيح والقلب الأقدس في بيوتهم. لاحقاً في أواخر السبعينيات، ستقتل عائلة بأكملها إن رفعت صورة رئيس الأساقفة أوسكار روميرو الذي كان اغتياله شرارة الحرب الأهلية التي يمكن أن نعتبرها توأماً للحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990)؛ حيث شهدت ما سُمّي بفِرق الموت، وتعدّدت فيها حالات الاختفاء التي تُقدّر بالآلاف والقتل العشوائي وتجنيد الأطفال وغيرها من الفظائع. وهذه هي الحدث الثاني الذي شكّل جزءاً كبيراً من هوية الأدب السلفادوري المعاصر.

شمل الاضطهاد السياسي والعسكري الناس والأفكار، وبالضرورة فإن أكبر المعارضين لآلة القمع هم الكتّاب والفنانون الذين كانوا مستعدّين لأن تُسلب حياتهم في أية لحظة. وإلى جانب الكتّاب الثائرين والمقاومين، ظهر أيضاً كتّاب متواطئون مع السلطة.

في تلك العقود، عاشت معظم شعوب أميركا الوسطى تحت سطوة الديكتاتوريات واضطراب الانقلابات والثورات، بل وتعاونت هذه السلطات في البلدان المختلفة على قمع الكتّاب وقلّدت الأنظمة بعضها في الديكتاتورية.

من فظائع تلك المرحلة القبض على الشاعر الثائر أوتو رينيه كاستيلو عام 1967 في غواتيمالا، وإحراقه حياً مع رفيقته نورا باييث كاركامو. وضمن تعاون الديكتاتوريات، سلّمت السلطات السلفادورية الشاعر روبرتو موراليس إلى غواتيمالا، واختفى لعشرة أعوام قبل أن يتأكّد قتله. أما الشاعرة آلايدا فوبا فقد اختفت في شوارع غواتيمالا منذ 1980، وإلى اليوم لا يُعرف ما وقع لها بالضبط، الأمر نفسه ينطبق على نيكاراغوا وتشيلي وغيرهما.

وإن أردنا التوقُّف عند جذور "أدب التحرير" في السلفادور، فإن القاص والشاعر الذي لا يمكن لأي مهتم بالأدب السلفادوري تجاهله هو سالارويه (1899 - 1975)، ومع ذلك فهو غير معروف تقريباً في الثقافة العربية، ومن أهم مؤلّفاته: "المسيح الأسود" و"الكتاب العاري" و"هذا وأكثر" و"سيد الفقاعات". أمّا أكثر كتبه شعبية فكان قصصاً قصيرة بعنوان "حكايات الطين".

مشى سالارويه عكس السلطة في سنوات الإبادة، إذ تذرّعت بأن الحرب ليست ضدّ الفلاحين بل ضد "بربريتهم" وجهلهم، وبهدف مقاومة الشيوعية، وبدعم أكيد من الولايات المتّحدة، فجاءت كتاباته وفيّة للضحايا، عميقة في تناول الجرائم، تستنبط أعماقها وتتعالى عليها.

المفارقة أن الكاتب الذي تم تهميشه كشكل من أشكال الاضطهاد، ما زال إلى اليوم يعاني من أثر ذلك التجاهل، فلن تجد الكثير من الدراسات عنه، ولم يُنقَل تقريباً إلى الثقافة العربية التي غالباً ما تهتم بالشائع وخصوصاً ما تحتفي به دور النشر الأميركية والأوروبية. لكن سالارويه أيضاً ساهم بشكل أو بآخر في تهميش نفسه، من خلال عزلته الشخصية التي هيمنت على حياته، فقد كان يرى أن المجتمع السلفادوري يمارس أيضاً سلطة اضطهادية لا تنفصل عن السلطة السياسية.

من الشعراء المؤسّسين للقصيدة الحديثة في السلفادور أوسفالدو إسكوبار فيلادو (1919 - 1961)، والذي وضع كتابه الأول "قصائد مغمضة العيون" عام 1945، وكانت مجموعة فاصلة وقتها. أمّا أهم مجموعة له، فهي "شجرة النضال والأمل" (1951) والتي خصّصها لضحايا السلطة الذين قُتلوا بالرصاص عام 1944، وكان هو أيضاً ضحية السجن والترحيل والنفي.

ميزة هذا الصوت المنفرد، أنه ربط الشعر بواقع بلاده، فبالنسبة إليه كان ما يهم فعلاً هو أن يقول الحقيقة في وجه الحاكم، وبهذه الطريقة أصبحت قصيدته شعبية، دون أن تكون مبتذلة، وهي معادلة صعبة على معظم الشعراء.

يمكن القول إن الأدب السلفادوري، اليوم، هو نتاج هذه السياقات العنيفة والدامية. ولعلّ ذلك ما يُعبّر عنه روك دالتون، صاحب "قصائد سرية" الذي بدأنا به المقال، حين يقول: "الشعراء السلفادوريون يؤسّسون عملهم على مبدأ أخلاقي؛ لكي تكون كاتباً فإنك تختار طريقة وجود وكينونة تقتضي، بلا أي خيار آخر، أن تكون ثورياً، ومن هناك، من الثورة، يمكنه أن يغني للحب".

هذه بعض ملامح الأدب السلفادوري وبداياته في القرن العشرين، ولا بد من ذكر بعض الشاعرات اللواتي أثّرن في القصيدة السلفادورية؛ مثل: ماتيلد إلينا لوبيز (1919 - 2010)، وكلاريبيل ألجيريا (1924 - 2018)، وقبلهن الأرمنية السلفادورية كلارا لارس (1899 - 1974).

المساهمون