السلطة الفلسطينية.. رهان المفاوضات العبثية

16 سبتمبر 2014

تظاهرة فلسطينية في غزة ضد استئناف المفاوضات (29أغسطس/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -

ما إن انتهت الحرب الإسرائيلية العدوانية على قطاع غزة، حتى عادت السلطة الفلسطينية إلى دعواتها إلى التفاوض، وبدأ فريق الرئيس، محمود عباس، التفاوضي تسويق ما أسماها مبادرة "إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي". وبغض النظر عن مدى استجابة الطرف الصهيوني لمبادرات كهذه، فإن من نافل القول أن الجولة التفاوضية الجديدة، إن حصلت، لن تضيف شيئاً - وهذا ليس رجماً بالغيب، وإنما نتاج قراءة موضوعية لواقع التفاوض- سوى مراكمة مزيد من التنازلات العربية، وإثبات فشل خيار التسوية، لكنها، أيضاً، فرصة لإعادة طرح متجددة لجملة إشكاليات أساسية متعلقة بطبيعة الممارسة السياسية للسلطة الفلسطينية، وطبيعة الرهانات التي ترتكز عليها، والأهداف التي تطمح إليها.

بداية، يمكن القول إن المفاوضات امتداد لآليات العمل السياسي، شأن الحرب، والغاية واحدة، هي حل النزاعات، مما يعني أن العملية التفاوضية ليست غايةً في ذاتها، بقدر ما هي أداة لتحصيل الحقوق، أو لتكريس الوقائع على الأرض، ضمن شروط محددة، لا نعتقد أنها متوفرة في حدها الأدنى، بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية، بقيادتها الحالية على الأقل، حيث يمكن التأكيد على وقائع لا يمكن القفز عليها.

أولها، أكيد أن سلطة محمود عباس لا تتبنى خيار المقاومة، وتعتبره عملاً عبثياً، مما تجلى في ضيق السلطة من ردود فعل المقاومة في غزة، في أثناء مفاوضات القاهرة غير المباشرة، حيث أصر عباس على تبني المبادرة المصرية بصيغتها الأولى، محاولاً منع المقاومة من تحقيق أية مكاسب سياسية، وهي التي أحرجته ميدانياً، بتحقيقها تفوقاً على مستوى المواجهة مع قوة الحرب الصهيونية، والرد عليها عسكرياً بكل الإمكانات المتاحة.

ثانيها، أن الطرف الفلسطيني المهادن للاحتلال حاول تقزيم انتصار المقاومة في غزة، مما يمكن ملاحظته في مواقف جهات إعلامية وسياسية، قريبة من سلطة عباس، وليصل رئيس السلطة نفسه إلى حد تحميل المقاومة، وحركة حماس تحديداً، مسؤولية العدوان، حيث اتهمها "بالمسؤولية عن سقوط ألفي شهيد، وإطالة أمد الحرب مع إسرائيل من دون داع".
ثالث الوقائع أن السلطة الفلسطينية بدت وكأنها بصدد رمي حبل نجاة إلى حكومة بنيامين نتنياهو، في ظل الأزمة السياسية الحادة التي تعيشها، والانتقادات الداخلية، التي تحدثت عما أسمته حصاداً بائساً للحرب، لم يتجاوز، حسب المحلل الإسرائيلي شمعون شيفر، "عشرات القتلى، وفرار غالبية سكان الجنوب في غلاف غزة، وإلحاق ضرر كبير بصورة إسرائيل".

ويهمل إصرار محمود عباس وفريقه على استمرارية المفاوضات، عن قصد، افتقاده أوراق القوة الضرورية لخوض صراعٍ، يتقرر إثره مصير شعب بأكمله، فهو لا ينطلق من حاضنة شعبية حقيقية، كالتي تستند إليها المقاومة، وإنما يكتفي بالاستناد إلى دعم رسمي عربي من أنظمةٍ، ليست إلا وكيلا للأجنبي، وهي لا تدفع إلا في اتجاه مزيد من التنازلات، في أفق التخلص من قضيةٍ، ظلت تؤرقها عقوداً. فالمفاوض الفلسطيني خالي الوفاض من الشروط الموضوعية، التي تسمح له بفرض مطالبه، في ظل مفاوضاتٍ، غير متكافئة أصلاً، وإذا كان أبو مازن وفريقه يعتقدون أنهم برفع رايات السلام والاعتدال ومحاربة المقاومة في الضفة الغربية، والمساهمة في عزل المقاومة سياسياً في غزة، والانحياز إلى ما يسمى دول" الاعتدال"، والاستجابة لشروط الرباعية سيخلقون ديناميةً، تفرض على الحكومة الصهيونية أن تصل إلى اتفاق عادل، فهم واهمون، لأن ما يحدث دوماً عكس ذلك، فكلما ازداد الاعتدال الفلسطيني، زاد التطرف الصهيوني (وهو ما يمكن ملاحظته في ازدياد شعبية اليمين المتطرف في الكيان الصهيوني)، وزاد التمسك بالمستوطنات وبكل شبر من الأرض المحتلة (لاحظ إعلان الحكومة الإسرائيلية مصادرة أربعة آلاف دونم من الأراضي، في جنوب الضفة الغربية المحتلة، وتحديداً في منطقة بيت لحم). ولأن التجربة التاريخية تكشف عن أن أي تفاوض بين طرفين، غير متفقين في المنطلقات والآراء والأطر المرجعية، وفي غياب الندية، فإن ما يحسم الحوار هو السلاح، أي منطق القوة.

ومن هنا، تصبح المقاومة المسلحة شرطاً، لا غنى عنه للطرف الواقع عليه الظلم، وهو هنا الفلسطينيون، كما يتطلب رصداً ذكياً من الطرف المقاوم، لاقتناص اللحظة المناسبة للدخول في التفاوض مع الطرف الآخر، من دون التوقف عن المقاومة في الوقت نفسه (النموذج الفيتنامي في التفاوض مع الأميركيين، حيث توقف القتال بعد انتهاء المفاوضات).

أما ما يحصل راهناً، فإن محترفي التفاوض في السلطة الفلسطينية يسارعون إليها، من دون أدنى ضمانات، غير وعود زائفة، من قوى دولية منحازة تاريخياً إلى إسرائيل، وهو أمر لن يؤدي إلا إلى مزيد من تكريس الأطماع الصهيونية، في مقابل إهدار الحقوق الفلسطينية كافة.

وشكلت الحرب الثالثة على غزة والمقاومة الأسطورية، التي أبداها الشعب الفلسطيني فرصة سانحة لمراجعة خياراتٍ عبثيةٍ كثيرة، انتهجها الوفد الفلسطيني المفاوض منذ أوسلو، وبناء قاعدة حقيقية تجمع بين خيارات متعددة، ضمن وحدة وطنية حقيقية، تحقق الغايات القصوى للشعب، وأمله في التحرر والاستقلال، غير أن الطرف المفاوض يصر، كالعادة، على تضييع هذا الإنجاز، وإضافة خطيئة أخرى إلى قائمة خطاياه الكثيرة بحق فلسطين.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.